د. هناء عبد الخالق

جَزرُ لبنان ينتظر حركة المَدّ

30 تموز 2020

02 : 00

منذ مدة تتجاذبني مشاعر تشبه حركة المدّ والجزر بين عزلة اختيارية أمارس خلالها طقوسي الفنيّة، وبين مواطنة لبنانية ترفض الحياد داخل وطنها والعزلة والنأي بالنفس عن مستقبله..

هل نعيش اليوم في لبنان حالة الجزر عند الغروب من دون أمل بعودة المدّ يغمر شاطئنا بيوم جديد؟

أنا لا أتكلم عن المدّ والجزر بالمعنى الشاعري ولا كظاهرة مناخية نتيجة عوامل فلكية، إنما بمشاعر امرأة، تمدّدت يوماً على شاطئ عند سواحل النورماندي شمال غرب فرنسا، مغمضة العينين تستمتع برذاذ موج يبرّد خيوط الشمس.. لتصحو فجأة على أصوات وجلبة وأناس يتجمعون، يتراكضون، بعضهم يبحث عن ثمار البحر والبعض الآخر يلتقط الصور والسلفي عند غياب الشمس على صخور تعرّت بانحسار الموج... نظرت حولي فلم أجد الشاطئ! بل صخوراً وأعشاباً مائية، تتباهى في حالة الجزر.

وقفت حائرة أنظر كيف تبدلت الأحوال في لحظة من صخب البحر وجمال شاطئه إلى حجارة لزجة من أعشاب بحرية، وصخب أناس ينتظرون روعة المشهد واكتشاف ما خبّأه الموج عنهم ليصبح القاع سطحاً مكشوفاً..

اليوم، أسترجع هذا المشهد وأقف حائرة على شاطئ "لبناننا" نحن الذين استمتعنا برذاذ انتمائنا إلى الطوائف والمذاهب أكثر من انتمائنا للوطن، لتتشابك خيوط شمس خلافاتنا الداخلية مع الأزمات الخارجية في عقدة ندُرَ مثيلها..

أنا لا احب الحديث في السياسة، ولكني شاهدة على جلبة الناس من حولي وتجمّعهم غاضبين بحالة من الجزر القسري وانكشاف القاع، منددين بحالة الجفاف لأبسط حقوقهم الإنسانية، ولكن ماذا سيلتقط هؤلاء الناس هنا، وأنا منهم غير ثمار الخيبات المتوالية؟



Fluidité 2008 | بريشة د. هناء عبد الخالق



هل ننسى كل هذا ونعود إلى التمدّد على شاطئ انفرادي في عزلة بانتظار مدّ قريب؟ أم نبحث عن الجمال في حقل "أزهار الشرّ"؟ على حدّ تعبير "بودلير".

كنت قد كتبت ورسمت أحلاماً ضاعت منّي في غفلة من زمن الحرب الأهلية، اليوم ربما نسأل لمن نكتب؟ وماذا نرسم وما جدوى الفن؟ وهل لهذا كله فائدة؟ طبعاً السؤال قديم ويتكرر مع الأزمات.

الفنّ اليوم ليس بحثاً عن الشهرة، أو انتظاراً لمردودٍ ماديّ، بل هو الوقوف في الفراغ، وتحويله فراغاً إيجابياً، فإذا كان الفراغ عنصراً من عناصر العمل الفنّي اليوم سنجعله عنصراً لاكتساب الحياة.

في الفن والكتابة نتشارك مع الآخرين، تصدُق الكاتبة الأميركية جويس كارول أوتس حين تقول إنّ: "الأدب كلّه والفنّ كلّه، ينبعان من أمل التواصل مع الآخرين". إنّ الرغبة في التواصل سواء آنياً أو مستقبلياً، هي جوهر العمل الإبداعي بما يشبه الشدو في ترانيمه لمزيد من الحياة. لكن ما يسبق هذا الأمل في التواصل، هو خيال الفنان وقدرته على تحويل إحساسه الواقعي وامتعاضه من الحياة وما يدور حوله إلى صيغة من الجمال، هو يعلن عن رفضه ويسعى لترميم صورة الحياة اليومية بإضفاء الفن عليها.

كلّ هذا ونحن بانتظار حركة المدّ، حركة تعيد المياه إلى شاطئ الأمان لننعم بفجرٍ جديد، وهذا يتطلب منّا مجهوداً، فليس بالأدب والفن وحدهما يتغير الواقع المرير، إنّما بصمود الطاقات الإنسانية بداخلنا.

وإذا طرحنا السؤال بوضوح هل من يقرأ؟ هل من يسمع؟ هل هناك من يهتم لمَ تكتبون وتحللون.. وماذا تبدعون أيها المثقفون؟ الأجوبة نعرفها سلفاً وهي تتربع كالمذاق المرّ في الحلق الجاف فتخطف جمالية اللّون وحبر الكلام...

لذلك أيها المثقفون لا وقت للانتظار، فأنتم من يساهم في تشكيل المجتمعات وتطويرها، "سلامتنا في سرعتنا" على حدّ تعبير الكاتب الأميركي رالف والدو إمرسون، فالوجع تفوّق على كل اللّغات وأساليب التعبير، عليكم أن تبتكروا أساليب جديدة لإسماعهم، لانتزاع اعترافهم بفشلهم، عندها يحلو المذاق بحناجركم، عندها تتعبّد طريق الحِبر واللون بتحقيق الأمنيات...


MISS 3