الدكتور جورج شبلي

مَن يكتب التاريخ؟

3 نيسان 2024

02 : 00

بدايةً، لا بدّ من تحديد مُجمل لما هو التاريخ، وما يُسَجِّل في دفَّتَيه من مُصطَفيات تعلق في أذهان الناس، وتُحفَظ في ذاكرتهم، فتبقى للعِلم وللعبرة. وذلك بمعزل عن الإشارة إلى مغالط المؤرّخين كما وردت في مقدّمة إبن خلدون مؤسّس عِلم الإجتماع.

التاريخ هو صفحة الكَون، وتذكرة افتتاح الزمن، رافقَ الأيام منذ نشأتها وما زال، وهو وثيقة الوقائع، ومٌدَوَّنة تَسلسلِ التطوّر في حياة الشّعوب. وقد أجمع المؤرّخون على تصنيف الأحداث والشخصيّات في التاريخ، تبعاً للأهميّة والتّأثير، سلباً أم إيجاباً. لذا، بِتنا نقرأ عن حدث تاريخيّ مهمّ، وكذلك، عن خطأ تاريخيّ نتائجه فادحة. من هنا، فالتاريخ لا يغفل عن شيء، ولا يهمل واقعة، مهما كانت هامشيّة. لقد تحدّث عن الحروب وآثارها الكارثيّة، كما دوَّن انبلاج فجر عصور التّنوير، والإنتقال من الإنحطاط والتخلّف، إلى زمن النهضة، والدولة، وحقوق الإنسان.

عندنا، ينقسم الذين كتب عنهم التاريخ، قديماً، وما سوف يكتب، لاحقاً، إلى ثلاث فئات، ويسري عليهم ما تتّصف به الألوان: الأبيض، والأَسوَد، والرّمادي. فبُنيات هذه الألوان لا تتغيّر، وكذلك، ما تحمل من صَبغات هي نزيلة الثَّبات، فلا يحول عليها الحَول، كما يقول «ياقوت الحَمويّ». فإنصافاً للحقيقة، وللبنان، وتأكيداً على صدقيّة التاريخ بالذّات، لن نتطرَق إلى الأسماء بل إلى سلوك الذين تداولوا على سُدّة المسؤوليّة الوطنيّة، وانعكاس هذا السّلوك على نَفَس الوطن، وذلك، بموضوعيّة ومن دون تَحامُل أو فئويّة، لتكون الوطنيّة، كانتماء وولاء وحِسّ صادق، هي مِعيار التَصنيف.

الأبيض يعني شعاع النّور، أو الإشراق النّاصع، أو النّقاء المُنَزَّه عن العيوب، ويطابق ذوي السّيرة المُصانة من الشوائب، فلا يفتنُهم إلّا طقس الخير. وقد برز الكثيرون مِمّن سار مرورهم مَسير الأمثال، في تاريخ لبنان، قديمه وحديثه، فسَما بهم زمنهم إذ تطلَّعوا إلى وثبة طليعيّة لبلدهم الذي يرزح تحت أعباء المِحَن، يحملون معهم مشروع قيام الدولة في غَمرة التآمر، والخطر، ونيّات الإستعمار والتسلّط. هؤلاء عملوا لكي يكتمل سِفر تكوين لبنان السيّد، الذي يعصى على العَتم. فلبنان، معهم، مشرَّع على الترقّي، متطلِّع إلى النموّ، والنّهوض، والحضارة، حفظوا معجمه مقطعاً بعد مقطع، وبجرأة غير مسبوقة وقفوا مَزهوّين ليعلنوا أنّ لبنان هو رسالة الحريّة إلى الدّنيا. وقد حشدوا مواجهة عملاقة كغَضَب فينيقيا، ليعتِقوا الهويّة من العزل، وبدَمهم سطّروا أجمل حكايا الوطن، أي ثورة العنفوان الذي أرغم العالَم على الإعتراف بلبنان حيثيّة ملتصقة بحتميّة الوجود الحرّ.

الأَسوَد يعني العتمة الشّنيعة، أو الظّلام المذموم، وقد وصف العرب العدوّ بأنّه أَسوَد الكَبِد، ويطابق هذا اللّون ذوي السّمعة الملوَّثة، فهم مهيَّأون للفساد والمكر واغتيال القِيَم. وقد توغّل كثيرون في بشاعة الفساد، وفي انحطاط الأخلاق نهباً، وصفقات، وفي تسطيح فكرة الدولة، وخداع الناس زوراً بخدمة مصالحه، ما مثَّل انهياراً للسيادة. وكذلك، أمعنوا في السَطو على مقدّرات الوطن والشّعب، ما أحبط أمل الأجيال بمستقبلهم. هؤلاء «القَوَاديّون» الخائبون نهشوا جسد الحلم وحوّلوه إلى كابوس، بتبعيّتهم، وخيانتهم، وتقويضهم للكرامة والشّرف، وبخضوعهم للأوصياء الذين سلّموهم الوطن مستعمرة، فحكموه كغزاة ولصوص. وقد تمادوا في سلوكهم التّنكيلي حتى بات الوطن مهشَّم الظلال، باهت القيمة، فهم يصدرون عن ترّهات، ويأتون موبقات أقلّها الإبتزاز والإختلاس والرّشوة، مشكِّلين أخطبوطيّة مافيَويّة هي الوباء الحقيقيّ لإجهاض قيام الوطن، ومشروع الدولة.

الرّمادي يعني التَّفاوت بين الأبيض والأسوَد، فلا هو هذا، ولا هو ذاك، ما يعني، تماماً، التردّد، والعزلة، عدم الوضوح، ويطابق ذوي الإنكفاء، وكأنّهم ما كانوا. هؤلاء، موسومون بِشِحّ في النّبرة، وبضبابيّة في الحضور، مثَلُهم كمثَل مكتومي القَيد، يلزمون العنوان التّافه التّالي: «مَنْ لا يَعمل، لا يُخطِئ». لكنّهم لا يدرون أنّهم بتَواريهم عن السّاحة، وخَرَسهم في الموقف، يُنتِجون ضرراً وخطراً هما من الذّنوب الوطنيّة الكبيرة، إذ تَجثم على الدولة، بذلك، مشاهد الرّعب، وشرعة قايين، والإجرام الهمجيّ، وتسود ثقافة السّكاكين.

إنّ غرفة عمليّات التاريخ ترصد، وبوضوح، مَن كان قَيِّماً على مجتمع الغاب، وعلى سيرة الإغتيال المُدَمِّر للوطن، وعلى طوفان الدمّ والعنف، وهو معروف الهويّة والعنوان، كما ترصد، أيضاً، مَنْ كلَّل جبينه بالعزّة، وصان إرادة الحياة، واصطبغ نضاله الوطنيّ بطَعم العنفوان والكرامة. وبالرَّغم من إرادة قتلنا التي ينتهجها جماعة «السَّواد»، نُعلن أنّنا نرفض محاولة ردّنا إلى قرون الظّلام، وإجبارنا على الإنفصال عن ترانيم الحريّة، وسنكتب، كما أبطال «البَياض» المُمَجَّدون الأَصفياء، وبروح جهاديّة، صفحات مشرقات في التّاريخ، تخلِّد وجودنا عبر الزّمن.

MISS 3