د. منير الحايك

"أسفار مدينة الطين"...ما بين السرديّة والتاريخ

28 كانون الأول 2023

02 : 00

«إنّ كلّ أماكن عزلتنا الماضية والأماكن التي عانينا فيها من الوحدة والتي استمتعنا بها ورغبنا فيها وتآلفنا مع الوحدة فيها تظلّ راسخة في داخلنا، لأننا نرغب في أن تظلّ كذلك. الإنسان يعلم غريزيّاً أن المكان المرتبط بوحدته مكان خلّاق»، هكذا يتحدّث غاستون باشلار في أحد طروحاته وأفكاره وآرائه حول المكان، ولكن هل ينطبق ما قاله حول التعلّق بالمكان ورسوخه فينا بأن استمتاع أجدادنا وآبائنا في مكان ما وتآلفهم معه سينتقل ويُتوارَث من جيل إلى جيل؟ هذا ما تقدّمه لنا «أسفار مدينة الطين» بجزءيها «سفر العباءة وسفر التبّة» (منشورات مولاف 2023) للكويتي سعود السنعوسي.

وإنّ حديثنا عن مسألة التعلّق ليس مردّها إلى أن النصّ بشخصياته يركّز على ذلك، وإنما نتحدّث عن تعلّق السنعوسي نفسه بهذا المكان كتعلّق من تحدّث عنهم في روايته حيث يعود بالزمن إلى بداية القرن العشرين لينقل لنا، ما يراه حصل، من وجهة نظر التاريخ وما يثبته، ووجهة نظر «الفنّان» الروائي وما يبدعه. وعندما تبدأ بالقراءة، وأنت تتهيّب البدء، لرواية من جزءين تصل إلى حدود الـ900 صفحة، وتعلم أن جزءاً ثالثاً قيد الطباعة تجد أن قول باشلار قابلٌ للتأويل على هذا النحو.

فسعود السنعوسي وهو صاحب مشروع روائي بدأه مع سجين المرايا وأطلق اسمه عربيّاً مع ساق البامبو ثم أكمله بالتنبّؤ القاسي في فئران أمي حصة، والذي اختبر نفسه بلعبة روائية صعبة في حمام الدار أحجية ابن أزرق، وبعدها أكمل بنصّ قصير بدأ هدوء ما قبل العاصفة معه وهو ناقة صالحة، يصل بمشروعه الملتزم بأحوال الكويت تاريخاً وجغرافيا وشعباً، عاداتٍ وتقاليد وأعرافاً، ينقلها ويرويها ويحاسبها وينقدها ويتغنّى بها أحياناً، الكويت التي تغدو رمزاً لكل منطقة الخليج والصحراء، إلى نصّ فيه من الدراسة والبحث والتمحيص، ما فيه من فنّ السرد الروائي، وربما أكثر.

يبدأ النصّ الروائي بإيهام ليس بالجديد على السنعوسي، ولم يعد جديداً على النصّ الروائي بشكل عام، حيث يوهم القارئ بأن الرواية هي نصّ منشور عام 1990 لكاتب اسمه صادق بو حدب ترافق نصه رسومات لـ»فياصل المشعيل» وهي في الحقيقة الرسامة مشاعل الفيصل، وقد صدر بحقها قرار بسحبها من التداول وإتلافها من قبل الرقابة الكويتية، وأنّ بوحدب استلهم كل قصص الرواية عن لسان رجل عجوز زاره قُبيل البدء بالجزء الأول، وحذّره من أن رواية الأسفار ستسبّب له المشاكل، ومع الجزء الثاني تبدأ الرواية مع زيارة غايب الذي تتنبأ به الرواية ولكنه يخبره القصة المنشورة قبل قراءة الجزء الثاني وتنتهي معه...

هذه التقنية اعتمدها السنعوسي في ساق البامبو، حيث يوهم القارئ في أول النصّ بأنه ترجم فقط رواية وصلت إليه وهو قام بنشرها بالعربية ولا دخل له بمضمونها، ولكن لا مانع من أن يعود إلى هذه اللعبة إن كانت تفيد هذا النص، ومن وجهة نظري، أراد السنعوسي استباق الأمور مع الرقابة، التي منعت من قبل فئران أمي حصة، فكأنه أراد للمتلقي أن يشاركه هذا الهمّ الشخصي والثقافي والوطني، حيث تكميم الأفواه في عالمنا العربي يطول من مثله، الأمر الذي لن يستطيع شرحه بتفاصيله على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فتأتي التقنية ليكون القارئ جاهزاً ليدافع عنه إن حصل أمر مشابه.

تبدأ الرواية بتفاصيل حول الصاجّة أم حدب، والتي غيّر الكاتب لها اسمها على الرغم من تحذير العجوز الراوي، وكل ما ارتبط بهذه الصاجّة وغيرها من أمور كانت تحكم عقلية أبناء مدينة الطين، الكويت أو غيرها من مدن الصحراء والخليج، ترتبط بالخرافة والغيبيات، وتأتي الرواية على العديد من هذه الأمور، ولا سيما التركيز على «العباءة» التي تسبّبت في موت أحد البحارة، بسبب نداءات «بودرياه» وهو شخصية خرافية بحرية يعرفها كل أبناء الخليج، تلك العباءة التي تتسبّب في الكثير، على زعم المعتقدين بالخرافة، وخصوصاً عندما تفضح الرواية بأن الأمير لم يقم بإتلافها. ومع سفر التبّة، وهي لغةً تعني المكان المرتفع الذي يحتمي به الجنود...، تبتعد الرواية عن البحر، وتدخل واقع الكويت وصراعاته في تلك المرحلة، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وما يدور هناك من أحاديث ونقاشات ومؤامرات، بين آل الصباح والإخوان وباقي القبائل، وبخط موازٍ ما يحصل مع البريطانيين والأميركيين والعثمانيين داخل هذه البقعة الجغرافية في تلك المرحلة التاريخية.

تأتي الرواية عندما تنتقل إلى زمن الكاتب الداخلي، صادق بو حدب، على أنّ حرباً شُنَّت عليه وعلى روايته من قبل أبناء وأحفاد شخصيات وردت في الرواية من وجهة نظر الكاتب، أو العجوز الراوي، يتهمونه بأنه شوّه تاريخ أولئك الرجال العظماء، وبالتالي هو تشويه لتاريخ المجتمع الممتدّ حتى حاضره، فتكون غاية السنعوسي التنبؤ لما قد يحصل معه من جهة، وتجييش القراء الذين سيتقبّلون الرواية بوصفها عملاً أدبيّاً ليكون عوناً له من جهة ثانية، فيكون الأدب سلاحاً بذاته وبغاية مقصودة من الكاتب، وهنا الجديد الذي أتى به أسلوب الكاتب وميّزه من نصوصه السابقة.

في الجزء الثاني عودة إلى البرّ، إلى مدينة الطين، وإلى أبنائها من مراهقين ورجال ونساء وصاجّات، وإلى الملّا الذي أخذ يؤثر في عقول الناس، في مقابل الصاجّة وتنبؤاتها، ولكن تأتي جملة على لسان إحدى الشخصيات، وهو فتى في مقتبل العمر، «الملّا هو الصاجّة والصاجّة هي الملّا» لتخبرنا الرواية بأن الجيل الجديد سوف لن يتأثر بأفكار الملّا الأصولية كما أنه سيتخلى عن خرافات الصاجّات، ولكن هل الأمور ستكمل هكذا في الواقع، يُترَك الأمر للتاريخ والواقع وتقدير المتلقّي لهما.

في الجزءين الأول والثاني نسمع صوت العقل مع يوميات الطبيبة الإنكليزية، التي تنقل أحداثاً نقلتها لنا الرواية بعشرات الصفحات، كعودة سفن صيّادي اللؤلؤ وما يسبقها ويرافقها من أمور، بسطور بسيطة ورأي بعيد عن معتقدات أهل «الديرة»، ولكن في الجزء الثاني يشمّر السنعوسي عن ساعديه ليبدأ بطرحه المسائل السياسية، فنجد مسؤولاً إنكليزيّاً هنا وآخر أميركيّاً، يتحدثون ويتناقشون، ويمرّر أفكاره ومواقفه حول ما حصل في تلك المرحلة، وما لا تذكره كتب التاريخ، ويحمّل المسؤوليات لأصحابها، من شخصيات كويتية وأجنبية، كلّ ذلك بأسلوب روائي جذل وسلس.

مأخذ واحد على الرواية التي أجد فيها مشروعاً يرقى إلى مدن عبد الرحمن منيف، وقد نجد ما يسمّيه النقد تناصّاً بينهما وهنا لا مكان للتوسّع، ولكن المتعة التي يتوخّاها القارئ من كاتبه المفضّل، والذي انتظره سنوات ليصدر ما وعده فيه من نصّ كان شغله الشاغل، لم تكن على القدر الكافي ولم ترتقِ إلى مستوى المتعة في روايات السنعوسي السابقة، فقد كانت متخمة بالشخصيات ومتخمة بالأحداث والقضايا، ومتخمة بالتاريخ والبحث، فيجد القارئ العاديّ نفسه في حالٍ من التساؤل، هل أنا من لا يستطيع مجاراة النصّ أم أنّ النصّ نفسه تعدّى الرواية والفنّ والأدب والمتعة، إلى التاريخ وأخذ كاتبه إلى أماكن بعيدة عن السرد الروائي اللذيذ من دون أن يدري، لأنّ الهمّ والمشروع سيطرا على تفكيره أكثر من سيطرة السردية والأدبية.

وقبل أن أنهي لا بدّ من الإشارة إلى أنّ سعود السنعوسي قدوة لكلّ كتّاب جيله، في التزامه وحرفيته وثقافته، يحتاجه الأدب العربي كما سيحتاجه الأدب العالمي لا محالة.

MISS 3