حسان الزين

الدولة والمواطنة والوطنية

20 نيسان 2024

02 : 03

لم يضع الأفرقاء السياسيون منذ الاستقلال بناء الدولة هدفاً، بل تصارعوا سواء أكان من موقع موالٍ أم معارض على السلطة ومن أجل إلحاق لبنان بهذا المحور الخارجي أو إبعاده عن ذاك. ولم تُسهم تلك الصراعات، التي كانت معارك سياسية تارة وحروباً طوراً، في منع بناء الدولة وتدمير نواتها ونهب البلد فحسب، بل في عدم ولادة مواطنة ووطنية أيضاً.

تزعزعت «الميثاقية الوطنية» سريعاً، خلال عقد ونصف بعد الاستقلال (1943). لقد بقيت خطاباً بعيداً من الواقع، ولم تُطبّق في سياق بناء الدولة وتنمية المجتمع وتقليص التفاوت بين مناطق الأطراف وبين بيروت وجبل لبنان، ولتجاوز الطائفية نحو الشراكة والمساواة. وعلى الرغم من الجهد الأيديولوجي والدعائي للنظام وأهله لم يكن لتلك «الميثاقية الوطنية»، في ظل الطائفية والامتيازات والاحتكارات، صدى لدى اللبنانيين واللبنانيات كافة. وفيما تسبّب عدم تطبيقها وتكرّس التمييز الطائفي سياسياً واقتصادياً واجتماعيّاً بتوسع التشققات بين اللبنانيين واللبنانيات، جاءت الظروف الإقليمية، لا سيما مع صعود الناصرية والقومية العربية والصراع العربي - الإسرائيلي والحرب الباردة الأميركية - السوفياتية، لتدفع كثيرين خارج العقيدة اللبنانوية. وانفجر ذلك في حرب 1958، التي انتهت بشعاري «لا غالب ولا مغلوب» و»لبنان واحد لا لبنانان»، وبتسوية أميركية - مصرية أوصلت فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية. وإذ استفاد شهاب من «التسوية» لتقليص التفاوت الاجتماعي وبناء مؤسسات وإدارات وتهذيب الطائفية من خلال تقديم الكفاءات، وصوغ «وطنية دولتية»، انقلب الزعماء و»أهل الحل والربط» على هذا «النهج» الذي تضرروا منه. ثم دخل العامل الفلسطيني المسلّح، بعد الهزيمة العربية في حرب 1967 مع إسرائيل واتفاق القاهرة في 1969، فاستفاد من الانقسام اللبناني القائم وغذّاه.

وعشية الحرب وإبّانها، تظهّر انشطار الوطنية اللبنانية: اقترنت اللبنانوية بالمارونية السياسية المتشبّثة بصيغة 1943 ذات الأرجحية المارونية والرافضة للوجود الفلسطيني المسلّح، فيما دعا بعض الأفرقاء المسلمين إلى «إلغاء الطائفية السياسية» واليسار إلى تغيير «النظام الطائفي» وعروبة لبنان مع احتضان الوجود الفلسطيني واستثماره عسكرياً لقلب موازين القوى.

ولم يبقَ المشهد على هذه القسمة، فبعدما كان هناك «شيعية سياسية» تطالب برفع الحرمان وتسعى إلى مكاسب في النظام، تقدّمت «ثورة شيعيّة» متمردّة على اللبنانوية والمارونية السياسية ونظامها ومختلفة عن الوطنية العروبية واليسارية والعلمانية. وفيما قاومت تلك «الثورة» الاحتلال الإسرائيلي ارتبطت بإيران الخمينية وسوريا البعثية.

وبعد اتفاق الطائف، وانتهاء الحرب برعاية سعودية - أميركية وبوصاية سوريّة، تقدّمت «السنية السياسية». وفيما حاولت صوغ وطنية تترجم تعديل الميثاق الوطني بقيادة مارونية (صيغة 1943) إلى الوفاق الوطني بدور سنّي متقدّم (اتفاق الطائف 1989)، انتظرت خلف الرياض ودمشق السلامَ العربي - الإسرائيلي برعاية أميركية. وفي الأثناء، كانت «الثورة الشيعية» تقاوم الاحتلال الإسرائيلي و»الشيعية السياسية المحرومة» تشارك في النظام، وكانت «المقاومة المسيحية» تواجه «الاحتلال السوري» وتُحبَط جرّاء إبعادها من الحكم وتراجع نفوذ المارونية السياسية.

وجاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري والانسحاب السوري (2005)، بعد خمس سنوات من تحرير الشريط الحدودي من الاحتلال الإسرائيلي (2000). وفي ظل طغيان الصراعات الإقليمية - الدولية والسعي إلى الغلبة المذهبية وغياب مشروع الدولة، حاول كل فريق احتكار الوطنية. فريق (14 آذار) المتحالف مع السعودية والولايات المتّحدة يعتبر الوطنية استقلالاً وسيادة تجاه سوريا وإيران خصوصاً؛ وفريق (8 آذار) المتحالف مع إيران وسوريا يعتبرها مقاومة للاحتلال الإسرائيلي والتدخل الأميركي. وارتفعت وتيرة محاولات احتكار الوطنية وحدّتها بعد انفراط عقد الاتفاق الرباعي الذي ضم «تيار المستقبل» و»الحزب التقدمي الاشتراكي» (14 آذار) و»حزب الله» و»حركة أمل» (8 آذار)، والذي سعى إلى ترميم نظام الطائف في الانتخابات النيابية 2005. ففيما أملت قوى «14 آذار» من خلال ذاك الاتفاق «لبننة» «حزب الله» وإدخاله اللعبة السياسية وتوزيع الحصص، وجد «حزب الله» طريقاً إلى تفاهم مع «التيار الوطني الحر» الذي لم يوافق على اتفاق الطائف وولد الاتفاق الرباعي لمحاصرته لكنّه استفاد منه انتخابياً وشعبياً.

مقابل ذلك، كانت هناك حركات وتحرّكات خارج اللوحة المذهبية وصراعاتها. وعلى الرغم من اشتباك تلك الحركات والتحرّكات مع قوى السلطة في شأن الدولة وإدارتها وسياساتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية، والنهب والفساد...، إلا أنها لم تقدّم مقاربة للدولة. وهو ما بات حاجة ومصلحة للبنانيّين وشرطاً موضوعيّاً لارتقاء تيار الاحتجاج والاعتراض إلى معارضة.

فغياب بناء الدولة عن سياسات قوى السلطة وصراعاتها ولّد خطابات مذهبيّة استنسابية وجزئية في شأن الوطنية وحَجَبَ المواطنة أو استبعدها. وهذه الخطابات التي تغلّب البعدَ الخارجي والغلبة المذهبية، بشكل جزئي واستنسابي، باتت حائلاً دون بناء الدولة والمواطنة... والمعارضة، وشكّلت حلقة مفرغة يدور فيها اللبنانيون واللبنانيات وفي مقدّمهم القوى السياسية. وعلى الرغم من طغيان هذه الخطابات، فإن في العمل لتجاوزها مصلحة للبنانيين واللبنانيات عموماً ولتيار الاحتجاج والاعتراض وشركائه. ولا تتظهّر هذه المصلحة إلا بإعادة الاعتبار لبناء الدولة والمواطنة بوصلة للوطنية. فمن دون مقاربة جديدة للدولة والمواطنة والوطنية سيبقى تيار الاحتجاج والاعتراض في خريطة الانقسامات المذهبية وخطاباتها الاستنسابية والجزئية، ولن يرتقي إلى معارضة؛ وسيبقى اللبنانيون واللبنانيات في دوامة صراعات الهويّات بعيدين من المواطنة وحقوقهم وواجباتهم.

ولن تولد تلك المقاربة إلا من مسافة ذات معايير موحّدة وعقلانية عن الطائفيات السياسية وتجاربها وخطاباتها الجزئية والاستنسابية في شأن الوطنية. إذ لا يُعقل، وليس مجدياً، تأييد مقاومة عدو بالارتباط بحليف خارجي تدخلي ووصائي، أو الدعوة إلى السيادة والاستقلال وتجاهل الاحتلال. ولا يُعقل، وليس مجدياً، الانحياز لغلبة «مكون» أو «مكوّنات» على حساب فئة أو فئات أخرى. فالمقاربة الجديدة يجب أن «تستوعب» الأبعاد الوطنية في الخطابات اللبنانية المتعددة، ربطاً بالدولة والمواطنة، وبقراءة الواقع السياسي والاجتماعي والتاريخ.

وهنا التحدي. فإذا لم يمسك تيار الاحتجاج والاعتراض بحبل ولادته المتمثّل في مقاربة جديدة للدولة والمواطنة والوطنية، وإذا لم يدرك اللبنانيون واللبنانيات مصلحتهم في الدولة والمواطنة والوطنية، سيبقى لبنان عموماً فريسة الغلبة المذهبية والخارج. وفي غياب مقاربة الدولة والمواطنة والوطنية ستكون السلطة وصراعاتها وحتى تسوياتها تفتيتاً للبنان وتدميراً للدولة وعلى حساب اللبنانيين واللبنانيات، بينما معها يغدو الحوار حتى في شأن الفيدرالية حفاظاً على لبنان وبناءً لدولته ومن مصلحة المواطنين والمواطنات.

MISS 3