أدريان كارتنيكي

روسيا تتّجه إلى مستقبل ستاليني

22 نيسان 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

شاب يحمل علماً لستالين خلال حفل لإحياء الذكرى الـ71 لوفاته في الساحة الحمراء في موسكو | روسيا، 5 آذار 2024

في العام 1968، اعتبر المحلل الأميركي جيروم م. غيليسون الانتخابات السوفياتية «حالة نفسية مثيرة للفضول»، ما يشير إلى ممارسة استعراضية يلجأ إليها النظام بدل إجراء انتخابات حقيقية بمعنى الكلمة. برأي غيليسون، تهدف تلك الانتخابات المفبركة ونتائجها الرسمية المبنية على إجماع شبه كامل إلى عزل المعارضين وربط مصير الشعب بنظامه.



يوم الأحد في 17 آذار الماضي، تكررت الأحداث نفسها وعادت روسيا إلى تلك الممارسة السوفياتية. ذكر المسؤولون عن الانتخابات أن 87 في المئة من الروس صوّتوا لصالح فلاديمير بوتين خلال الانتخابات الوطنية، ما يمنح الرئيس الروسي ولاية خامسة في السلطة. كان جزء كبير من الإحصاءات الانتخابية المعلنة مستحيلاً من الناحية الرياضية، لكن لم يحصل الناخبون على خيار آخر، فقد تعرّضت أبرز شخصيات المعارضة للقتل، أو الاعتقال، أو النفي. وعلى غرار ما كان يحصل في الحقبة السوفياتية، سمحت الانتخابات بتقريب الروس من نظامهم لأنها اعتُبِرت استفتاءً حول حرب بوتين ضد أوكرانيا. في المحصّلة، حصلت انتخابات على الطريقة السوفياتية وجاءت لترسّخ جهود بوتين الرامية إلى تحويل روسيا بعد الحقبة الشيوعية إلى مجتمع قمعي يرتكز على جزء كبير من خصائص التوتاليتارية السوفياتية.

لكنّ تداعيات عودة روسيا إلى تلك الممارسات السوفياتية تتجاوز حدود الانتخابات. أجرى صحافيون من شبكة «بروكت ميديا» دراسة جديدة عبر استعمال البيانات المتاحة، فاستنتجوا أن روسيا أصبحت اليوم قمعية من الناحية السياسية أكثر مما كان عليه الاتحاد السوفياتي في عهد جميع القادة منذ جوزيف ستالين. في آخر ست سنوات، استهدف نظام بوتين 5613 روسياً عبر توجيه تُهَم سياسية ضدهم صراحةً، بما في ذلك «تشويه سمعة الجيش»، و»نشر معلومات كاذبة»، و»تبرير الإرهاب»، وجرائم مزعومة أخرى استُعمِلت على نطاق واسع لمعاقبة كل من ينتقد الحرب الروسية في أوكرانيا أو يبرر نزعة أوكرانيا إلى الدفاع عن أراضيها.

بالإضافة إلى التُهَم والأحكام الجنائية، خضع أكثر من 105 آلاف شخص للمحاكمة بتُهَم إدارية في آخر ست سنوات، ما يفرض عليهم رسوماً هائلة وأعمالاً قسرية لمدة تصل إلى ثلاثين يوماً ومن دون الاحتفاظ بحق الاستئناف. عوقب عدد كبير من هؤلاء الأفراد بسبب مشاركتهم في مسيرات أو تحركات سياسية غير مرخّصة، بما في ذلك احتجاجات رافضة للحرب. كذلك، اتُّهِم آخرون بانتهاك تدابير مكافحة جائحة «كورونا». تُفرَض هذه العقوبات الإدارية بسرعة ولا تترك أي مجال لاستئناف الأحكام.

استُعمِل عدد كبير من تقنيات السيطرة التوتاليتارية الشائعة اليوم في أنحاء روسيا للمرة الأولى في المساحات التي نشر فيها الكرملين الحروب والصراعات. كانت الشيشان أول مساحة تجريبية للممارسات القمعية التي شملت تعرّض أعداد هائلة من الضحايا للاعتقال، والإعدام، والخطف، والتعذيب، والاغتصاب. بالإضافة إلى هذه النزعة الوحشية إلى استهداف المدنيين خلال حربَين روسيتَين في الشيشان، جاءت تلك الممارسات لتعطي طابعاً مألوفاً للسلوكيات الإجرامية داخل هياكل أمن الدولة الروسية.

في شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا التي تحتلها روسيا منذ العام 2014، بدأت حملة واسعة من المراقبة، وعمليات الإعدام بإجراءات موجزة، والاعتقالات، والتعذيب، والترهيب، وتتماشى هذه المظاهر كلها مع ممارسات السوفيات ضد الشعوب التي احتلّوها. في الفترة الأخيرة، تجددت ممارسة قديمة ترتكز على التنازلات السياسية القسرية: نشرت قناة «سميرش في شبه جزيرة القرم» على «تلغرام» عشرات الفيديوات حيث يظهر أوكرانيون مرعوبون وهم يتخلون عن هويتهم الأوكرانية أو يمتنعون عن المجاهرة بأي رموز أوكرانية. يبدو أن هذه الفيديوات تم تحضيرها بالتنسيق مع عمليات الشرطة وأجهزة أمن الدولة.

في أجزاء من أوكرانيا المحتلة منذ العام 2022، وثّقت جماعات حقوق الإنسان انتهاكات واسعة وجرائم حرب محتملة، بما في ذلك خطف الأولاد واحتجاز الأوكرانيين في سلسلة من معسكرات الاعتقال التي تشبه المعسكرات السوفياتية، واللجوء إلى ممارسات التعذيب والاغتصاب لكسر إرادة الأوكرانيين.

في ظل توسّع العنف الروسي في أوكرانيا، بدأت معظم شرائح المجتمع والدولة تتقبل تلك الأعمال البغيضة أيضاً. كما حصل في حقبة ستالين، أصبحت الممارسات الوحشية وثقافة الخوف اليوم جزءاً مألوفاً من المعايير القانونية والأخلاقية. بدأ مناخ الخوف الذي انتشر في البداية لفرض النظام في المناطق المحتلة ينطبق على روسيا بحد ذاتها اليوم. في هذا السياق، شكّل مقتل أليكسي نافالني قبيل الانتخابات الرئاسية رسالة قوية من بوتين إلى الشعب الروسي: ما من بديل عن الحرب والنظام السياسي القمعي الذي فرضه الرئيس وكان التخلص من نافالني جزءاً منه.

تشير كل التقنيات والوسائل القمعية إلى نظام إجرامي بدأ يزداد شَبَهاً بنظام ستالين التوتاليتاري، وهو نهج يتبناه بوتين بالكامل. بعد وصول بوتين إلى السلطة للمرة الأولى في العام 1999، عمد إلى الإشادة بستالين مراراً واعتبره زعيماً مدهشاً للحروب لكنه لم يؤيد نزعته الوحشية. لكن حين بدأ بوتين يميل إلى دعم الحرب والقمع، راحت روسيا تنشر صورة أكثر إيجابية عن ستالين. لا تكتفي المناهج في المدارس الثانوية بالإشادة بإرثه، بل إنها تطمس ممارسات نظامه الإرهابي أيضاً. في غضون ذلك، ينتشر اليوم أكثر من مئة نُصُب تذكاري جديد لستالين في أنحاء البلاد. وفي وسائل الإعلام الحكومية، يتطرق داعمو الحملة الدعائية الروسية دوماً إلى عظمة ستالين ويشددون على نقاط التشابه بين قيادته في زمن الحرب ودور بوتين القيادي. في الوقت نفسه، تلاشت النقاشات المرتبطة بممارسات ستالين الإرهابية وملايين الناس الذين وقعوا ضحية أعماله. كان شخص روسي واحد من كل خمسة يحمل نظرة إيجابية عن ستالين خلال التسعينات، لكن تكشف استطلاعات الرأي في آخر خمس سنوات أن ذلك الرقم ارتفع وبات يتراوح بين 60 و70 في المئة. من خلال تقبّل أفعال ستالين، لا يريد بوتين أن يتغاضى عن جرائم ذلك الحاكم المستبد، بل إنه يعطي طابعاً مألوفاً لممارسات ستالين لتبرير حملته القمعية ونزعته الحربية.

اليوم، يبدو بوتين مشابهاً لستالين أكثر من أي زعيم سوفياتي أو روسي آخر. على عكس نيكيتا خروتشوف، وليونيد بريجنيف، وقسطنطين تشيرنينكو، ويوري أندروبوف، أو حتى ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين، يملك بوتين سلطة مطلقة لا يتقاسمها معه البرلمان، أو المحاكم، أو مكتب حزبه السياسي. أطلقت الحملة الدعائية الروسية نزعة مبنية على شخصية مشابهة لستالين، وهي تُمجّد سلطة بوتين المطلقة، وعبقريته كزعيم للبلاد، ودوره كقائد لامع في زمن الحرب. تعتبره هذه الحملة رئيساً شجاعاً وقوياً لأمّة عسكرية، وهو يهدف، مثل ستالين، إلى هزم النظام «النازي» في أوكرانيا واسترجاع السيطرة على أوروبا الشرقية والوسطى. ومثلما استفاد ستالين من الكنيسة الأرثوذكسية المحلية لدعم الجهود الروسية خلال الحرب العالمية الثانية، استفاد بوتين من البطريرك الأرثوذكسي الروسي كيريل كحليف أساسي له وداعم للحرب الروسية الوحشية في أوكرانيا. وعلى غرار ستالين، جعل بوتين غزو البلدان المجاورة وضم الأراضي محور سياسة الكرملين الخارجية.

ترافقت وجهة بوتين نحو الاستبداد مع عزلته التدريجية عن بقية شرائح المجتمع. على غرار ستالين في أيامه الأخيرة، بدأ بوتين يعيش حياة معزولة قبل تفشي جائحة «كوفيد». وعلى غرار ستالين في آخر مراحل عهده، يفتقر بوتين إلى حياة عائلية مستقرة ويقال إنه يعيش علاقات عابرة مع سلسلة من العشيقات، حتى أن بعضهنّ أنجبن منه أولاداً يبقون بعيدين عنه وفق بعض التقارير. وعلى غرار ستالين أيضاً، يسهر بوتين حتى ساعات الصباح الأولى، وقد جمع من حوله حاشية صغيرة من شخصيات يستطيع الوثوق بها، معظمهم رجال في الستينات والسبعينات من عمرهم وهو صديق لهم منذ عقود، منهم رجال أعمال مثل يوري كوفالتشوك وإيغور سيتشين، ووزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. تشبه هذه الحاشية شبكة أعوان ستالين الصغيرة التي تألفت من رئيس مجلس الأمن لافرينتي بيريا، والزعيم العسكري كليمنت فوروشيلوف، وعضو الحزب الشيوعي جورجي مالينكوف. بالنسبة إلى شخصيات أخرى في مناصب قيادية، يبقى بوتين رئيساً بعيداً عنهم وزعيماً مطلقاً يهين المسؤولين الأقوياء علناً. تعرّض رئيس قسم التجسس سيرغي ناريشكين للإهانة مثلاً حين تردد هذا الأخير في دعم بوتين عندما أعلن الحرب ضد أوكرانيا.

تزامناً مع فرض سيطرة شبه كاملة على الحياة المدنية ووسائل الإعلام محلياً، وتصاعد مظاهر القمع والترهيب، وإطلاق حملة دعائية حكومية لدعم النزعة إلى «تقديس» الرئيس، وتوسّع الطموحات الجيوسياسية، من الواضح أن بوتين يقلّد ممارسات ستالين عمداً، لا سيما القرارات المرتبطة بالحرب العالمية الثانية. وحتى لو لم يكن بوتين يحبذ الفكر الشيوعي السوفياتي، يبدو أنه غيّر روسيا وشعبها بطريقة تشبه جهود ستالين لطرح زعيم سوفياتي جديد.

أخيراً، يأتي فوز بوتين الساحق في الانتخابات ليؤكد على دعم الشعب الروسي لحربه الوحشية، ونزعته إلى عسكرة المجتمع الروسي، وإنشاء ديكتاتورية توتاليتارية. إنه الوقت المناسب كي يعترف الجميع بأن أوكرانيا ليست الجهة الوحيدة التي باتت مُهددة بسبب غرق روسيا في الاستبداد، وتعبئة المجتمع لدعم الحرب، ونشر الكراهية تجاه الغرب، وإقناع السكان بالأفكار الإمبريالية، بل إن تحوّل روسيا إلى قوة ستالينية وإمبريالية جديدة يطرح تهديداً ناشئاً على الولايات المتحدة، وحلفائها الأوروبيين، ودول أخرى في جوار روسيا. من خلال الاعتراف بعمق التغيّرات التي شهدتها روسيا ونزعة بوتين إلى تقليد قواعد ستالين، يسهل أن نستنتج أن مواجهة تهديدات روسيا المعاصرة تتطلب شكلاً من التماسك والالتزام العميق، بما يشبه الصفات التي تحلّى بها الغرب حين واجه الاتحاد السوفياتي بقيادة ستالين في ذروة الحرب الباردة.

MISS 3