بول هوكينوس

أوكرانيا بدأت تنتصر في جبهة أخرى من الحرب

23 نيسان 2024

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

جندي أوكراني على متن قارب للحرس البحري التابع لدائرة حدود الدولة الأوكرانية أثناء قيامه بدوريات في الجزء الشمالي الغربي من البحر الأسود | 18 أيلول 2023

ابتسم فيكتور بيريستنكو من مكتبه المُطِلّ على ميناء «بيفديني» في أوديسا في منطقة البحر الأسود، حين كان يشاهد ست سفن شحن دولية ضخمة وهي تخرج من الميناء. قال رئيس رابطة وكلاء الشحن الدوليين في أوكرانيا ضاحكاً: «إنه مشهد جميل بقدر أول قبلة في حياتنا»! في حديث مع صحيفة «فورين بوليسي» في أواخر شهر آذار، قال بيريستنكو بكل سعادة إن موانئ أوكرانيا الثلاثة في أوديسا ومحيطها تنشط على مدار الساعة، وقد عادت صادرات الحبوب الأوكرانية إلى مستويات ما قبل الحرب.



يُعتبر تجدّد التجارة في البحر الأسود إنجازاً كبيراً بالنسبة إلى أوكرانيا، فهو يتعارض بشدة مع الخسائر التي تحمّلها البلد هذه السنة على الجبهات الشرقية. في منطقة البحر الأسود، حققت أوكرانيا نتائج لا يمكن تصوّرها، فقد هزمت البحرية الروسية القوية، مع أنها لا تملك قوة بحرية حقيقية يمكنها الاتكال عليها.

انطلاقاً من تلك المساحة الساحلية الصغيرة في محيط أوديسا، نجحت أوكرانيا في كبح محاولات موسكو لمحاصرة اقتصادها وتدميره عبر منعها من تسويق صادراتها الزراعية الهائلة. في ربيع العام 2022، حاصر الجيش الروسي الموانئ الأوكرانية في البحر الأسود وأوقف الصادرات موَقتاً، ما أجبر أوكرانيا على الانتقال إلى طرقات برية لتسويق بضائعها، فارتفعت أسعار الحبوب حول العالم وزادت المخاوف من انتشار الجوع في الشرق الأوسط وأفريقيا. اليوم، لا تزال روسيا تحتل 16 ميناءً أوكرانياً. لكن تبدو جبهة البحر الأسود واعدة بالنسبة إلى أوكرانيا أكثر من أي مرحلة سابقة منذ بداية الحرب قبل أكثر من سنتين.

خسر الأسطول الأوكراني 80 في المئة من سفنه بعد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014. لكن تزعم القوات الأوكرانية المسلّحة أنها شلّت ثلث أسطول البحر الأسود الروسي عبر الاتكال على خليط من الأنظمة الصاروخية والقوارب المسيّرة التي تُوجّهها أنظمة تحديد المواقع العالمية وكاميرات متقدمة. كذلك، عطّلت تلك القوات الخطوط الروسية التي تزوّد آلاف الجنود بالإمدادات في المناطق المحتلّة من جنوب أوكرانيا.

في 24 آذار، وجّهت أوكرانيا ضربة مؤثرة أخرى، إذ يقال إنها استعملت صواريخ جو – أرض مصنوعة في المملكة المتحدة أو فرنسا، فقضت على سفينتَي إنزال روسيتَين ضخمتَين وبنى تحتية أخرى بالقرب من المدينة المرفئية المحتلة سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم. تعرّض الأسطول الروسي لانتكاسة كبرى لدرجة أن يقيل الأميرال البارز نيكولاي يفمينوف من منصبه في منتصف شهر آذار. اليوم، ترسو السفن الروسية المتبقية بموازاة الأرصفة، في أقصى شبه جزيرة القرم. هي تبقى بعيدة عن أنظار أوكرانيا، لكنها ليست خارج نطاقها بالكامل.

يقول فولوديمير دوبوفيك، مدير مركز الدراسات الدولية في جامعة «ميتشنيكوف» الوطنية في أوديسا: «أرادت روسيا أن تُحوّل البحر الأسود إلى بحيرة روسية كبيرة. لكن نجحت أوكرانيا في كبح خططها. اليوم، لا تصل السفن الروسية إلى شمال غرب البحر الأسود».

هذه التغطية سمحت لأوكرانيا بارتجال ممر بحري يبدأ في أوديسا ويشمل سواحل آمنة في دول منتسبة إلى حلف «الناتو» مثل رومانيا، وبلغاريا، وتركيا، حين تتّجه السفن نحو الجنوب الغربي وهي في طريقها إلى مضيق البوسفور الذي تمرّ به معظم تجارة البحر الأسود. تستغل أوكرانيا اليوم المحاصيل الوافرة لتصدير الحبوب (ذرة، قمح، شعير) وسلع أخرى بكميات مشابهة لتلك التي كانت تُصدّرها قبل الحرب، حتى أنها فتحت موانئها في أوديسا لإطلاق عمليات ليلية إضافية. قبل الحرب، كانت تجارة الحبوب الأوكرانية تتفوق على كلّ دول الاتحاد الأوروبي، وكانت أوكرانيا تؤمّن نصف كميات زيت دوار الشمس التي تتم المتاجرة بها حول العالم، إلى جانب خام الحديد والأسمدة.

يقول سيرغي ياكوبوفسكي، خبير اقتصادي في جامعة «أوديسا» الوطنية: «إنه عامل بالغ الأهمية بالنسبة إلى الاقتصاد الأوكراني، ومنطقة أوديسا، ومستقبلنا عموماً. يجب أن نبذل قصارى جهدنا لإبقاء ذلك الممر مفتوحاً وفاعلاً».

ترتكز استراتيجية أوكرانيا غير المتماثلة في البحر الأسود على القوارب المسيّرة الأوكرانية الصنع أكثر من أي وقت مضى: تُعرَف هذه المركبات باسم «السفن السطحية غير المأهولة»، وهي تشق طريقها في المياه بأعلى سرعة تحت الرادار الروسي وتحمل حتى 800 كيلوغرام من المتفجرات. سمحت هذه المقذوفات بإغراق أو تعطيل 24 سفينة حربية روسية مفقودة، ما يثبت زيادة إنتاج الأسلحة المحلية في أوكرانيا وأهمية هذه المعدات في ظل غياب المساعدات الأميركية والأوروبية المتوقعة. وفق صحيفة «غارديان»، تشمل أوكرانيا في الوقت الراهن مئتَي شركة لتصنيع المركبات المسيّرة، ويستفيد جزء منها من حملات التمويل الجماعي. تذكر وزارة التحول الرقمي في أوكرانيا أن تلك الشركات سلّمت في كانون الأول 2023، متفجرات آلية بكميات تفوق إنتاج العام 2022 بخمسين مرة.

تقضي استراتيجية أوكرانيا بالحفاظ على وجودها في البحر الأسود، على أمل أن تقتني قريباً الصواريخ الطويلة المدى التي تحتاج إليها لاستهداف شبه جزيرة القرم والأراضي الروسية خارج تلك المساحة. يوضح دوبوفيك: «بالنسبة إلى أوكرانيا، تتعلق المسألة الأكثر إلحاحاً بالتطورات المرتقبة في المراحل المقبلة. لا تزال شبه جزيرة القرم منطقة شائكة، وإذا تمكنت أوكرانيا من تكثيف الضغوط على روسيا هناك، قد تجعل الاحتلال خياراً غير قابل للاستمرار. كذلك، قد يتغيّر منطق الحرب إذا عجزت روسيا عن تزويد الجبهات الشرقية في شبه جزيرة القرم بالإمدادات».

ردّت روسيا عبر استهداف موانئ أوديسا، وشبكات الطاقة، والمجمعات السكنية، بالصواريخ الباليستية. نادراً ما يمرّ يوم واحد من دون أن يتعالى صوت صفارات الإنذار الخاصة بالغارات الجوية في تلك المدينة المرفئية، ما يدفع السكان إلى التوجه نحو أقبيتهم. في شهر آذار وحده، قتلت الاعتداءات الروسية 32 مدنياً.

قد يظن البعض أن الطريق البحري الساحلي الجديد يلغي حاجة أوكرانيا إلى بلوغ أسواق الاتحاد الأوروبي عبر الممرات البرية، لا سيما تلك التي تمرّ بأوروبا الوسطى، ما يعني تخفيف الشرخ الذي سبّبه الوضع المستجد بين دول أوروبا الوسطى وأوكرانيا. بعد بدء الغزو الروسي، سمح الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا بالوصول إلى أسواقه من دون دفع أي رسوم جمركية، ما أدى إلى إضعاف تجارة الحبوب في دول «مجموعة فيشغراد» ونزول المزارعين إلى الشارع للتعبير عن غضبهم، لا سيما في بولندا. اليوم، من المنطقي أن تعود العمليات التجارية إلى ممراتها السابقة وأن يتلاشى الخلاف الشائك في هذا القطاع.

لكن لا يتوقع خبير الاقتصاد ياكوبوفسكي حصول أي تطورات مماثلة بهذه السرعة. هو يعتبر الممر البحري الجديد الذي تستعمله أوكرانيا طريقاً موَقتاً وغير مصرّح به، فهو نشأ بكل بساطة نتيجة ضعف روسيا البحري اليوم واتفاق غير رسمي بين روسيا وأوكرانيا لتجنب استهداف سفن الشحن المدنية. لكن قد ينتهي هذا التدبير في أي لحظة برأيه.

بالنسبة إلى روسيا، من المستبعد أن تتحسن مكانتها في البحر الأسود في أي وقت قريب لأن تركيا تسيطر على مضيقَي البوسفور والدردنيل، وقد اختارت أنقرة أن تلتزم بمضمون اتفاقية مونترو من العام 1936، فهي تمنع مرور السفن الحربية في المضيقَين وصولاً إلى البحر الأسود في زمن الحرب. لهذا السبب، لا تملك روسيا أي وسيلة لاستقدام التعزيزات إلى موانئها.

أصبح الوضع كله تحت سيطرة أنقرة نتيجة انسحاب روسيا من مياه البحر الأسود وتحكّم تركيا بالمضائق. لهذا السبب، تتوقف قدرة أوكرانيا على التمسك بطريقها التجاري الجديد على تركيا بدرجة معينة.

في الماضي، أثبتت أنقرة براعتها في استعمال نفوذها لتحقيق مصالحها الخاصة، بغض النظر عن طبيعتها، وقد تُحوّل فرحة فيكتور بيريستنكو هذه المرة إلى نزوة عابرة.

MISS 3