الدكتور جورج شبلي

فنّ الأصغاء في زمن "كِترِة الحكي"

23 نيسان 2024

02 : 00

إنّ الكثيرين من المدركين يَعون أنّ الحوار لا يُبنى إلا على أساس المشاركة، مداخلة وإصغاء، لِما لهما من مدلولات بناءة تَرقى إلى الحمولة الأخلاقية، والثقافية، والتبادلية... لكن صيانة الحوار، عندنا، مفسّخة، مضعضعة، بدليل أنّ أي حوار يتجه إلى المساجلة، أكثر ممّا يؤسس لحال الفهم والتفاهم، وإلى توسيع المساحات المشتركة، وترسيخ شروط التقارب بين مكونات المواقف، وذلك ليقدّم الحوار نفسه مبادرة تنسج شبكة إيجابية من التواصل، بعيداً عن التصادم، والتشنج، والتميز، والقطيعة.

في البداية، لا بدّ من بلورة إطار الإصغاء، ليُفهَم، ويُتبنّى سبيلاً للتفاعل المجدي بين المتحاوِرين، والمتواجِهين، وتأميناً للإعتدال السلوكي بينهم، وحرية المشاركة عملاً بالمبدأ الديمقراطي.

إنّ الإصغاء، في اللغة، هو الإستماع بانتباه، أو حُسن الإنصات، أما في حيثيات الحوار، فهو نصف المحادثة، ويَنتج عن موهبة وإرادة. لكن المشكلة تكمن في أننا أسأنا، إلى حدّ واسع، التعاطي مع آذانن، فاندلعتْ علاقة نزاعية معها، وغاب عنا الإحساس الحيوي بوجود دقة السماع، ليصبح ما تتلقاه آذاننا شيئاً من الضجيج الصاخب.

من هنا، جاءت ردات الفعل، أو ارتكاستنا تجاه ما تتلقاه آذاننا، جملة من الإرتكابات الشنيعة ضد المنطق والمعقول، وأصبحَت إجاباتنا غضبية، مجانية، قاسية، وتحوّل الواحد منا إلى مأساة موضوعية متنقلة. وليس ذلك سوى جزء من الأضرار التي يُخلّفها إدمان الثرثرة السائد في مجتمعنا اليوم.

لقد غابت عنا ثقافة الإصغاء، وابْتُلينا بأصحاب شأن، كان من المفترض أن يشكّلوا نموذجاً لفنّ التواصل الراقي، غير أنّ الواحد منهم يصدر عن مجموعة عقَدٍ جعلتنا نتكيّف معها، ونقبَلها، وندافع عنها، وذلك باندفاع أرْعن فيه من الأذية لقيمنا ما يَندى له الجبين. فبدلاً من أن تكون آذاننا جسور عبور للآخر إلينا، لكي يقرأه فكرُنا بإمعان، فيكون الحوار التبادُلي، بالتالي، أنيساً مفيداً، أصبح طرب الآذان مقموعاً بالصوت الزاعق الذي يُفجّر مواهبه «الراقية» بخطاب مُسِفّ، تستجيب له الآذان المحتاجة إلى صيانة.

إنّ حُسْن الإستماع أضحى كالأرض البور، في حين كان يَجدر أن يتحوّل إلى «مؤسسة» إرادية ذات حقّ طبيعي، وإلى باب من أبواب العقل، يتكامل مع أبواب الحواس الأخرى، الداخلية منها والخارجية. من هذا المنطلق، لا بدّ من إعطاء امتياز لفنّ السماع، وتحرير الآذان من عصور الرقّ، يومَ راح الزاعقون يستعبدون آذاننا بترّهاتهم الممقوتة، ولا يزالون.

إنّ الكفّارة تكون بحرب ردّة إلى ديمقراطية الإستماع، حيث تنْعتق الآذان من إقطاع برابرة عصور الظلامة، أولئك الذين تدور طواحين ألْسنتهم من دون انقطاع، ولكنْ على فراغ. من هنا، إننا نناشد الآذان أنْ تعلن ثورة تُعيد إليها عهدَ انفتاحها على كل استفادة، من أي جهة أتت، كذلك عهدَ «الغربلة» التي ترمي جانباً السخيف والمغرض والمحرِّض واللامنطقي، وما أكثره. فما نتمتّع به من احتياطيّ العقل، إذا أُعلِنَت تلك الثّورة، قادر على تحقيق هذه النقلة النوعية من هوّة الضجيج إلى ظروف الموضوعية، وإلى التلذّذ السَّماعي.

لقد أشار الحكماء، في ما مضى، إلى أنّ تكوين رأي أو موقف أو فكرة أو ردّ، يبدأ، حتماً، بالإصغاء إلى الآخر لاستيعاب ما يقول، على أن يتمّ الإصغاء بكلّ انفتاح وقبول. وهذا، بالذات، يؤمّن انتقال المعلومة بسلاسة وانضباط إلى حيّز العقل، حيث نظام التحليل والإستنتاج، وحيث التعاطي بليبيرالية مميّزة مع المعطيات المتلقاة، ليَصدر، بعدها، عن هذه الماكينة الناشطة ما يُنقذ الآذان من عقوبة تعذيبها القسرية المفروضة، ويُعيد إليها حقّها الطبيعي أو «كرامتها الإصغائية». إنّ الضمانة الوحيدة في هذا المجال، هي الوعي الذي يُميز بين ما يَنتهك نواميسه، وبين ما يَخضع لها ويلتزم بها، وهو يضع خطّ تماس بين متعة الإستماع وبين إدمان الثرثرة السيّالة.

علينا، إذاً، أن نتعلم أنّ الصّمت متعة ذكية تُنقّي حاسة السمع وتُرهِّفها، وأنّ الإصغاء مهارة تُزيل عامل التشتّت، وترمّم العلاقة بين العقل وبين صاحبِهِ طَرَف الحديث. ولمّا كان الإصغاء فنّاً يُتقنه الذوّاقة، ويَقمع الشهوة إلى المبالغة في الكلام، نعود إلى ما قاله أحد الحكماء لابنه، كما نقله إبن عبد ربّه في «العقد الفريد»: «يا بُنَيّ، تَعلَّمْ حُسْن الإستماع كما تتعلَّم حُسْن الحديث. ولْيَعْلَم الناس أنّك أَحْرَص على أنْ تَسمع منك على أنْ تقول».

وبعد، عسى أنْ تُنْبِت الرّؤوس آذاناً...

MISS 3