نجم الهاشم

من بيت مري إلى دمشق وطهران: إيلي كوهين عاد حيّاً؟

24 نيسان 2024

02 : 00

إيلي كوهين في سوريا

بعد تصفية محمد سرور في فيلا في بيت مري واتّهام الموساد الإسرائيلي بقتله، طُرحت إسئلة كثيرة عن مدى الإختراق الإسرائيلي للأمن اللبناني، ليس في هذه القضية فحسب بل في قضايا أخرى واغتيالات مستمرة ومتتالية استهدفت قيادات في «حزب الله» وحركة «حماس» و»الجهاد الإسلامي» قبل «طوفان الأقصى» وبعده. واقع الأمور يشير إلى أن الإختراقات الإسرائيلية أوسع من لبنان وتمتدّ عبر دمشق وبغداد وصولاً إلى طهران، في ظلّ عجز الدول المذكورة و»حزب الله» عن اكتشاف أسرار هذه الإختراقات، وكأنّ هناك أكثر من إيلي كوهين جديد في أكثر من دمشق.



لم تكن قضية اغتيال القيادي في حركة «حماس»، صالح العاروري، في 2 كانون الثاني الماضي، في المشرفية في ضاحية بيروت الجنوبية مع عدد من رفاقه، وحدها التي سلّطت الضوء على مدى الإختراق الأمني الإسرائيلي للساحة اللبنانية. قبله وبعده كانت هناك عمليات اغتيال كثيرة حيث ظهر وكأن «حزب الله» والأجهزة الأمنية اللبنانية عاجزة عن اكتشاف أسرارها. ولذلك طرحت قضية تصفية محمد سرور في فيلا بيت مري المزيد من الغموض حول هذه الإختراقات. فهو كان موضوعاً على لائحة العقوبات الأميركية ويعمل مع «حزب الله» ويُفترض أنه كان واعياً لخطر يتهدّده. وعلى رغم ذلك خُدِع واستُدرِج إلى المكان الذي شهد نهايته من دون اكتشاف من ساهم في استدراجه وفي تصفيته.

سوريا ساحة مفتوحة

لا يقتصر الإختراق الإسرائيلي على الساحة اللبنانية وحدها، بل يمتد إلى دمشق والعراق وإيران حيث أن الكثير من عمليات القصف والتصفية التي ينفّذها الطيران الإسرائيلي تكشف عن مدى هذا الإختراق وتجذّره. وعملية قصف القنصلية الإيرانية في حي المزة في دمشق، في أول نيسان الجاري، لم تكن الأولى حيث تمكّنت إسرائيل من قتل قائد الحرس الثوري في سوريا ولبنان اللواء محمد رضا زاهدي، ونائبه محمد هادي حاجي رحيمي، و5 ضباط آخرين. هذه العملية تركت انطباعاً عن أنّ لدى إسرائيل معلومات من مصادر موثوقة حدّدت بموجبها مكان وجود القادة الإيرانيين فقامت باستهدافهم وقتلهم من دون الأخذ بالإعتبار مستوى الرد الإيراني. وكما في غارة القنصلية بقيت معالم غارة الضاحية الجنوبية في بيروت غامضة وملتبسة.

منذ بدأ «حزب الله» حرب الإشغال على الجبهة الجنوبية دعماً لحركة «حماس» في قطاع غزة استهدفت إسرائيل عدداً من عناصره وقادته العسكريين. أمين عام «الحزب» السيد حسن نصرالله عبّر عن اللغط الذي يعيشه مع حزبه في تحديد الطريقة التي تجعل إسرائيل تنجح في هذه العمليات، وتحدّث في إطلالة له عن خطر الهواتف الخليوية معتبراً أنها جواسيس. ولكن استمرار هذه العمليات على رغم الحذر، يكشف عن اخترقات أخرى أعمق وأبعد مدى، ليس في لبنان وحده بل في سوريا أيضاً والعراق وإيران حيث تكررت عمليات الإغتيال والتصفيات وصولاً إلى القصف الإسرائيلي على مناطق قريبة من المفاعل النووي في أصفهان ردّاً على قيام إيران باستهداف إسرائيل بأكثر من 300 مسيَّرة وصاروخ فشل معظمها في الوصول إلى أهدافه نتيجة التصدي الأميركي والإسرائيلي والفرنسي والبريطاني لها.

وربّما من الأدلة على عجز إيران عن اكتشاف الخروقات الإسرائيلية، أن إيران تقصدت في 16 كانون الثاني الماضي قصف موقع في منطقة أربيل في إقليم كردستان العراقي، اعتبرت أنّه مقر لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية، وقد أعلن الحرس الثوري أيضاً استهداف قيادات وتجمعات وصفها بـ»الإرهابية» في سوريا وقال إنها مسؤولة عن التخطيط لهجوم كرمان في إيران الذي استهدف قبر القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وأسفر عن مقتل أكثر من مئة شخص.

ولكن بعد أربعة أيام فقط كانت إسرائيل تنجح في اغتيال مسؤول وحدة الاستخبارات في فيلق القدس صادق زاده ونائبه في غارة استهدفت مقرهما في حي السيدة زينب في دمشق. وكانت اغتالت في 25 كانون الأول رضي الموسوي القيادي في الحرس الثوري الذي كان يشرف على التنسيق العسكري بين سوريا وإيران ولبنان.





تصفية المعارضين أولاً

لم تنجح إيران والأنظمة العربية التي قاتلت إسرائيل في تحقيق توازن رعب استخباراتي معها. كانت أجهزة استخبارات هذه الدول تنصرف أكثر نحو تصفية المعارضين في الداخل، وتترك الصراع مع إسرائيل عنواناً لاتهام هؤلاء وغيرهم بالعمالة لهذا العدو. غير قصّة العميل المصري رأفت الهجان الذي تقول مصر إنّها اخترقت بواسطته الأمن الإسرائيلي، قد يكون «حزب الله» يشكّل استثناء على هذه القاعدة نتيجة عمله على تحقيق اختراقات موازية. ولكنّه على رغم أنّه نجح أحياناً، إلا أنّه لم يستطع أن يجاري المستوى الذي بلغته إسرائيل بسبب التفاوت الكبير في الإمكانيات على المستويات المختلفة. وهذا ما مكّن إسرائيل من النجاح في تحقيق أهداف كثيرة ضد الحزب الذي فشل حتى اليوم في الرد على اغتيال قائده الأمني والعسكري عماد مغنية في حي كفرسوسة في قلب دمشق في 12 شباط 2008.

في حي أبو رمانة الدمشقي عاش أبرز عملاء إسرائيل إيلي كوهين. وهو يبقى مثلاً على القدرة الإستخباراتية الإسرائيلية المتفوِّقة والنابعة من عقل أمني استراتيجي يعمل كل ما يستطيع أن يعمله من أجل حماية أمن إسرائيل. مثل كوهين يعبّر عن أزمة مقابلة لدى الإستخبارات السورية مثلاً. إذ أنّ ثلاثة ضباط سوريين شاركوا في قصة كوهين واعتقاله وإعدامه كانت نهاياتهم أكثر مأسوية من نهايته وعلى يد النظام الذي قاتلوا من أجله ثم قتلهم.



نصرالله ومغنية




جهاز روسي كشف كوهين

في كانون الثاني 1962، وبعد عملية تجنيد استمرّت ثلاثة أعوام وبدأت في الأرجنتين، تحت اسم كامل أمين تابت، جاء إيلي كوهين إلى سوريا. من مرفأ جنوى في إيطاليا انتقل مع السوري ماجد شيخ الأرض، بواسطة باخرة إلى مرفأ بيروت وكان نقل معه سيارة مجهّزة لعمله التجسسي، وانتقل بواسطتها مع رفيقه إلى دمشق برّاً. بعد ثلاثة أعوام استطاع خلالها كوهين تحقيق إختراقات أمنية كثيرة داخل سوريا، وقع في الفخ في 18 كانون الثاني 1965. لاحظت السفارة الهندية في دمشق تشويشاً على رسائلها، فأبلغت السلطات السورية وكان النظام السوري قد حصل على جهاز روسي لتعقب الإرسال اللاسلكي واستطاع من خلاله الوصول إلى الشقة التي كان يقيم فيها كوهين واعتقله وهو يقوم ببث رسالة إلى الموساد في تل أبيب. عندما طلب منه إكمال الرسالة كان قادراً على تغيير طريقة البث بحيث أعلم مشغليه أنه صار معتقلاً.

بعد محاكمة سريعة استعراضية مغطاة إعلامياً، نُفّذ حكم الإعدام شنقاً بكوهين في ساحة المرجة في دمشق في 18 أيار 1965، ودُفن في مكان لم يعلن عنه. أحمد سويداني وعبد الكريم الجندي وسليم حاطوم كانوا من الضباط الذين شاركوا في القبض عليه ومحاكمته وإعدامه.





القنصلية الإيرانية في دمشق



سليم حاطوم الثاني من اليمين خلال محاكمة كوهين



نهاية ثلاثة ضباط


كان العقيد أحمد سويداني رئيساً للمكتب الثاني السوري المشرف مباشرة على الاعتقال وقد طُرد من الجيش في العام 1968 بعد الخلاف بين حافظ الأسد وصلاح جديد. واعتُقِل في مطار دمشق عام 1969 بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري وبقي في سجنَ المزة 25 عاماً ولم يطلق سراحه إلا قبل وقت قليل من وفاته في العام 1994.

العقيد عبد الكريم الجندي صار رئيساً للمكتب الثاني بعد انقلاب الأسد وجديد على الرئيس أمين الحافظ عام 1966. ولكنه وقف إلى جانب صلاح جديد ضد الأسد. وعندما أيقن أنّ الأسد حسم الصراع ضد جديد، انتحر في مكتبه في 2 آذار1969 بعد أن كتب رسالة حذر فيها من توجّهات الأسد.

سليم حاطوم الضابط الدرزي، لا تختلف نهايته كثيراً عن مصير زميليه. كان أحد الضباط في اللجنة الخماسية من ضباط حزب البعث الذين نفّذوا انقلاب 8 آذار 1963. وكان الضابط الرئيسي الذي ساهم في إسقاط حكم اللواء أمين الحافظ في انقلاب داخل سلطة البعث في 23 شباط 1966. ولكنه بعد خلافه مع قيادة جديد والأسد حاول القضاء على جديد في خلال زيارة له إلى محافظة السويداء. ولكن محاولته فشلت بعد تدخل الطيران الذي كان يقوده حافظ الأسد وهرب إلى الأردن وحوكم غيابياً وصدر بحقه حكم بالإعدام. عندما بدأت حرب حزيران 1967 عاد من الأردن إلى سوريا لكي يشارك في القتال معتبراً أنّ الحس الوطني سيكون أعلى من حكم الإعدام، ولكن «رفاقه» لم يرحموه. اعتقلوه في مطار دمشق ثم أعدموه.


ساعة كوهين والتدخل الروسي

لم تنته قصة كوهين بإعدامه. دُفن في مقبرة اليهود. بعد خمسة أعوام جرت محاولة إسرائيلية لسرقة جثته ونقلها إلى إسرائيل. كُشِفت المحاولة بالصدفة وفرّ الفريق المكلّف بالعملية. قيل وقتها إنّه انتقل إلى سوريا من لبنان وفرّ منها إلى لبنان عبر الجرود بين البلدين. نتيجة ذلك، نُقلت رفاته إلى مقبرة سرّية. ولكن البحث الإسرائيلي عنه استمرّ. مثله مثل الطيار المفقود رون أراد الذي سقطت طائرته قرب صيدا عام 1986. بعد الحرب في سوريا جرت محاولات كثيرة للعثور عليه. اللافت أنه بعد الدخول الروسي إلى سوريا جرى البحث عنه في مقابر مخيم اليرموك. وفي تموز 2018 أعلنت تل أبيب عن استعادة الساعة الخاصة به وأن فريقاً من الموساد قام بهذه العملية في داخل سوريا. ولم يتأكّد ما إذا كان الروس ساعدوا في هذه العملية. التعاون الروسي أدى إلى العثورعلى رفات الجندي الإسرائيلي زخاريا باومل الذي فقد في لبنان في اجتياح 1982، قبل الإعلان مطلع نيسان 2019 عن إعادتها إلى إسرائيل.

بعد ستين عاماً على قضية إيلي كوهين تعود إلى الواجهة مسألة عدم القدرة على اختراق أسرار الإختراقات الإسرائيلية الأمنية من بيروت إلى دمشق وبغداد وطهران. ويعود السؤال الذي لا جواب بعد عليه عما إذا كانت إسرائيل زرعت أكثر من إيلي كوهين في أكثر من مكان.