بدأ موسم الانتخابات في أوروبا، واستنتج رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مجدداً أنه يستطيع كسب الأصوات بفضل جورج سوروس. قال أوربان في أواخر شهر آذار خلال مقابلته شبه الأسبوعية مع «راديو كوسوث»: «شبكة سوروس راسخة في المؤسسات الأوروبية. هي راسخة لدرجة أن تمنحها المؤسسات الأوروبية المال لمتابعة نشاطاتها. هي موجودة في المفوضية والبرلمان، ولا يعارض عدد كبير من رؤساء الوزراء سوروس صراحةً».
بين 6 و9 حزيران، سيختار المواطنون في 27 دولة عضواً في الاتحاد الأوروبي برلماناً جديداً، وقد أطلق أوربان حملته في المجر وهو يتكل على جرعة جديدة من السياسات الهجومية، فقال خلال مقابلته في آذار إن بروكسل «بدأت تصبح أسيرة لشبكة الناشطين الدولية التي بناها جورج سوروس في آخر ثلاثين سنة».
هذه ليست المرة الأولى التي يستعمل فيها أوربان سوروس، المموّل اليهودي المجري والناشط في الأعمال الخيرية، كأداة مفيدة خلال الحملات الانتخابية. سبق ولجأ إلى المقاربة نفسها للفوز في انتخابات مجرية سابقة. لكن يكمن الاختلاف هذه المرة في إقدام المتحدث باسم أوربان على ترجمة هجومه اللاذع ضد سوروس من اللغة المجرية إلى الإنكليزية ونشر الترجمة على منصة «إكس». من الواضح أن الهجوم يتخذ هذه المرة بُعداً أوروبياً غير مسبوق.
في العام 2019، وصفت مقالة بعنوان «القصة المدهشة وراء المؤامرة ضد جورج سوروس»، في موقع «بازفيد نيوز»، طريقة عمل السياسة الهجومية والسبب الذي جعل رئيس وزراء المجر يستعملها في آخر عشر سنوات. تروي تلك المقالة قصة خبيرَين أميركيَين في التلميع الإعلامي كُلّفا بتصميم أول حملة كراهية أطلقها أوربان ضد سوروس في العام 2013، فنجحا حينها في تحويل سوروس إلى أكثر رجل مكروه في المجر خلال أسابيع قليلة. كان سوروس قد جمع ثروته في الولايات المتحدة وصرف مليارات الدولارات لصالح المنظمات التي تدعم الحُكم الديموقراطي وحرية التعبير حول العالم. نجحت حملة التشهير ضده لدرجة أن يفوز أوربان في الانتخابات.
كان الخبيران آرثر فينكلستين وجورج بيرنبوم يهوديَين أيضاً، وقد انطلقا من فكرة بسيطة: للفوز في الانتخابات، يجب أن يتخذ المرشّح موقفاً هجومياً. ترتكز هذه الفكرة على الفرضية القائلة إن معظم الناخبين يعرفون المرشّح الذي سيصوّتون له، لذا يصعب إقناعهم بالتصويت لمرشّح آخر. في المقابل، من الأسهل إحباطهم. يمكن تشويه سمعة الخصم السياسي عبر توجيه وابل من التُهَم ضده، معظمها كاذبة، فيبدأ داعموه بالتشكيك به. نتيجةً لذلك، يقرر البعض الامتناع عن التصويت وينتقل البعض الآخر إلى دعم الخصوم.
لجأ الخبيران إلى هذه التقنية للمرة الأولى في إسرائيل في العام 1995، بعد اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين مباشرةً. بدأ التحضير لانتخابات جديدة، وكان شيمون بيريز الديموقراطي الاجتماعي المرشّح الأوفر حظاً. لم يمنح معظم المراقبين المرشّح الشاب عن حزب «الليكود» المحافظ بنيامين نتنياهو، أي فرصة، وكان هذا الأخير متأخراً في نتائج الاستطلاعات بنسبة 20 في المئة. تواصل نتنياهو حينها مع فينكلستين وبيرنبوم، فأخبراه بأن الطريقة الوحيدة لتحسين فرص فوزه تقضي بأن تُركّز حملته على نشر شائعة مفادها أن بيريز ينوي تقديم نصف القدس إلى الفلسطينيين. لم يكن بيريز يحمل أي نوايا مماثلة، لكن زادت أسئلة الصحافيين عن هذه المسألة مع انتشار الشائعة على نطاق واسع. وبدل مناقشة أجندته السياسية، اضطر بيريز للدفاع عن نفسه ضد كذبة نتنياهو. هكذا وقع بيريز في فخّه، وفاجأ نتنياهو الجميع حين فاز في انتخابات العام 1996 بعد تلقي أكثر من 50 في المئة من الأصوات.
بعد العام 2000، ساعد فينكلستين وبيرنبوم السياسيين في بلغاريا ورومانيا على كسب النفوذ خلال حملات مماثلة. ثم عرّفهما نتنياهو على سياسي طموح آخر في أوروبا: فيكتور أوربان. كان هذا الأخير رئيس الحكومة بين العامين 1998 و2002 قبل أن يخسر السلطة. شعر أوربان بالإهانة لدرجة أن يتعهد بعدم الخسارة مجدداً. في العام 2010، أوصاه الخبيران بإطلاق حملة قوية ومثيرة للانقسامات ضد البيروقراطيين والمستثمرين الأجانب، فأعطت نصيحتهما ثمارها: فاز تحالف أوربان بغالبية الثلثَين في الجمعية الوطنية، وتعرّض الديموقراطيون الاجتماعيون لهزيمة كبرى لم يتعافوا منها حتى اليوم.
خلال الاستحقاق الانتخابي اللاحق في العام 2014، بالكاد نجحت المعارضة في ترك بصمتها. مع ذلك، لم يأخذ أوربان أي مجازفة واستشار الخبيرَين مجدداً لمساعدته على حسم الفوز في مرحلة مبكرة، فأخبراه بأنه يحتاج إلى وجه مألوف لجعله كبش فداء، ثم اقترحا عليه اسم سوروس ونصحاه بتصويره كمموّل يهودي له أجندة سياسية سرّية: إضعاف المجر قبل السيطرة عليها.
خلال هذه الحملة، لام أوربان سوروس وأعوانه على كلّ مشكلاته، بدءاً من الأزمات المالية والاقتصادية التي اجتاحت البلد، وصولاً إلى تدفق اللاجئين من سوريا الغارقة في الحرب وبلدان أخرى. في العام 2014 ثم 2018، فاز أوربان في الانتخابات، فأحكم قبضته على السلطة في المجر. خلال الانتخابات التمهيدية في العام 2018، انتشرت ملصقات في كلّ أنحاء المجر يظهر فيها سوروس مع العبارة التالية: «لا تدعوا سوروس يضحك أخيراً». في تلك السنة، أخرجت الحكومة المجرية «الجامعة الأوروبية المركزية»، التي أسّسها سوروس وشارك في تمويلها، من البلد. لجأت هذه الجامعة في نهاية المطاف إلى فيينا، وهي تنشط من هناك حتى الآن.
قال بيرنبوم يوماً إن «وجود العدو أمر إيجابي» واعتبر سوروس «هدفاً مفيداً». لم يتمكن سوروس من الدفاع عن نفسه. لو أنه حارب الطرف الآخر، كان ليثبت الشائعات المنتشرة ضده. ولو تورّط في الصراع السياسي داخل المجر، كان أوربان ليتّهمه بالتعطش للسلطة. لهذه الأسباب، فضّل عدم التفوه بكلمة، لكنّ الشائعة انتشرت في مطلق الأحوال.
كان والد بيرنبوم أحد الناجين من معسكر الاعتقال «أوشفيتس». (توفي فينكلستين، الذي كان أكبر منه بكثير، في العام 2017). لكن يبدو أن استعمال الأفكار العنصرية ومظاهر معاداة السامية في حملاتهما لم يكن يزعج بيرنبوم. حتى أنه سأل في إحدى المقابلات التي شارك فيها: «ألا أستطيع أن أهاجم شخصاً لمجرّد أنه يهودي؟».
فاز أوربان في استحقاقَين انتخابيَين في المجر عبر تصوير سوروس كـ»وحش كاسر»، لكنه استعمل هذه الاستراتيجية للمرة الأولى للفوز في انتخابات أوروبية خلال العام 2019. انتشرت الملصقات التي تشمل رئيس المفوضية جان كلود جونكر وسوروس مع العبارة التالية: «من حقكم أن تعرفوا ما تُحضّره لكم بروكسل!»، ثم ركّزت حملة أوربان على ملف الهجرة، أي خطة بروكسل «السرّية» لاستعمال تأشيرات الهجرة وإغراق أوروبا بالمهاجرين، ومحاولات أوروبا المزعومة لمنع المجر من حراسة حدودها الخارجية.
التزم سوروس الصمت بشكل عام، بينما سارع جونكر إلى نفي تلك التُهَم، علماً أنه كان قد اعتبر رئيس الوزراء المجري «ديكتاتوراً». أنكر جونكر بقوة تخطيط بروكسل لاستعمال تأشيرات هجرة سرّية أو تعطيل عمل حراس الحدود. باختصار، أعطت استراتيجية أوربان ثمارها وفاز تحالفه بـ53 في المئة من الأصوات.
اليوم، تحمل ترجمة المواقف الهجومية التي يطلقها رئيس الوزراء المجري ضد سوروس إلى اللغة الإنكليزية معنىً عميقاً. قال ديبلوماسي مجري يوماً: «يظن فيكتور أوربان أن أوروبا ستصبح مُلْكه أو مُلْك إيمانويل ماكرون». في بلدان مثل فرنسا، حيث أصبح السياسي اليميني الحازم جوردن بارديلا من حزب «التجمع الوطني» الذي تقوده مارين لوبن المرشّح الأوفر حظاً، يطغى خيار ثنائي مشابه على الحملة الانتخابية: ستتحدد معالم أوروبا على يد أشخاص مثل ماكرون أو أعضاء «التجمّع الوطني».
لم تعد أحزاب يمينية حازمة كثيرة في مختلف البلدان تريد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بسبب تأثير ثلاثي «بريكست وترامب وبوتين» الذي تكلم عنه السياسي السويدي كارل بيلدت، بل يبدو أنها تريد الانخراط في السياسة الأوروبية للمرة الأولى كي تحاول تغييرها من الداخل. نتيجةً لذلك، تسعى هذه الأطراف إلى تشكيل تحالفات لزيادة تأثيرها قدر الإمكان. قال أوربان خلال مؤتمر حزبي في السنة الماضية، إن الانسحاب ليس الحل بل تحتاج أوروبا إلى التغيير.
بدأ اليمين الوسطي الأوروبي يسير في هذا الاتجاه بدءاً من المرحلة التمهيدية لانتخابات هذه السنة، كما يحصل في دول أعضاء أخرى حين يحاول هذا المعسكر منع الناخبين من الهرب إلى اليمين المتشدّد. تكشف استطلاعات كثيرة أن المعسكر الوسطي سيحافظ على تماسكه بعد الانتخابات في شهر حزيران، لكنها تتوقع أيضاً أن يُحقق اليمين الحازم مكاسب بارزة في عدد كبير من الدول الأعضاء.
في النهاية، يظن بول ليندفاي، وهو صحافي مجري في فيينا كتب سيرة نقدية عن رئيس الوزراء المجري، أن أوربان «وضع المجر في جيبه، وهو يخطط للاستحواذ على أوروبا في المرحلة المقبلة». يبدو أنه ينوي استغلال سوروس لتحقيق هذه الغاية مجدداً. من الأفضل أن تستعد أوروبا لما ينتظرها.