روي أبو زيد

إنفجار بيروت يعصف بالأبنية التاريخية والتراثية

متحف سرسق... هل يمكن إنقاذ الأعمال الفنية؟

11 آب 2020

02 : 00

خلّف انفجار بيروت دماراً هائلاً في المدينة وأباد مرفأها بالكامل، لكنه أصاب تاريخاً عريقاً بجروح عدّة، حافظت عليه أبنية تراثية بجدرانها المزخرفة ونوافذها الملونة وقناطرها العالية قبل أن تتحول مجرد واجهات تخترقها فجوات ضخمة.

بقيت تلك الأبنية صامدة منذ أن كان لبنان تحت حكم السلطنة العثمانية ثم الانتداب الفرنسي. لكن تبدّل المشهد كلياً في بضع ثوانٍ مع انفجار تعادل قوته زلزالاً شدته 3,3 درجات على مقياس ريختر، فطالت أضراره الأحياء التي تقع، في محيط المرفأ.

في قصر بنته عائلة سرسق البيروتية الأرستقراطية في القرن الثامن عشر، وصمد بوجه حروب عدة مرّت على لبنان، سقطت ألواح زجاجية ملونة أرضاً، وتكسرت أجزاء من أبواب حُفرت عليها كتابات بالأحرف العربية، ولم تبق واجهة زجاجية على حالها.





في إحدى الزوايا، يتكدّس ما تبقى من أرائك محطمة وطاولات لم يبق منها سوى قطع خشبية مبعثرة.

تمسك وريثة القصر تانيا إنجا ما تبقى من لوحة ممزّقة تماماً تحمل صورة والد جدها، مرددة "سأحافظ عليها من أجل الذكرى". وتقول إنجا، في الخمسينات من عمرها، "ما حصل أشبه بعملية اغتصاب". وتضيف "بات هناك الآن شرخ بين الماضي والحاضر. قُطعت أوصال الذاكرة بالنسبة للمكان وللعائلة ولجزء لا يتجزأ من تاريخ بيروت".

أما المبنى المجاور، فهو قصر سرسق الشهير الذي بنته العائلة ذاتها في العام 1912، وحولته لاحقاً إلى متحف ومساحة عرض للفنانين اللبنانيين والأجانب. وبات القصر اليوم يروي قصة مدينة "منكوبة" بعدما شهد على تاريخ لبنان بأكمله منذ نشأته مع إعلان دولة لبنان الكبير مطلع أيلـــول 1920، حتى هذه اللحظة.

إلى جانب لافتة كُتب عليها "أهلا وسهلاً في متحف سرسق"، رميت ألواح معدنية ملتوية فوق بعضها البعض بعدما أخرجت من المنزل.

وعلى غرار منازل بيروت، ما من لوح زجاجي بقي على حاله، ولم تصمد إلا قطع صغيرة من الزجاج الملون في عشرات النوافذ التي تزيّن واجهات القصر الأبيض في قلب منطقة الأشرفية في بيروت.

وتشير المسؤولة الإعلامية في المتحف مورييل قهوجي في حديث لـ"نداء الوطن" الى أن" موقع المتحف قريب جداً من مكان الانفجار لذا تضرّر بشكل كبير"، موضحةً أنّ "أبواب الحديد والخشب قد تأثّرت بشكل كبير حتّى أنّ الأسقف تهدّمت فضلاً عن تحطم الزجاج".





وإذ تلفت قهوجي الى أنّ "25 لوحة وأعمالاً فنية قد تضرّرت"، تضيف أنّ "المرممّة أكدت لنا أنّ غالبية الأعمال سيُعاد ترميمها، لكن ثلاثة الى أربعة أعمال لن نتمكّن من إنقاذها". وتضيف: "هناك منحوتتان قيّمتان قد تضرّرتا لكن سنتمكّن من إعادتهما الى شكلهما السابق".

وتشدد على أنّ "الصور أبلغ من الكلام"، مردفة أنّ "البعض قد أصيب بجروح طفيفة خلال العمل".

وإذ تؤكد قهوجي أنّ "الصحافة العالمية غطّت الأحداث الأخيرة في بيروت ومن ضمنها ما حصل في متحف سرسق"، تشير الى أنّ "هذه المقالات الفنية والثقافية دفعت ببعض المؤسسات الثقافية الى مدّ يد العون لمتحف سرسق، أهمها مراكز ثقافية في فرنسا سترمّم اللوحات على نفقتها فضلاً عن بعض المبادرات الفردية".

يتفقد المهندس جاك أبو خالد القصر الذي أشرف على ترميمه قبل 20 عاماً. ويُطمئن أن أساسيات القصر ما زالت ثابتة، أما كل شيء آخر قد تضرّر، كالجدران التي استُحدثت من أجل تعليق لوحات المعارض.

ويقول أبو خالد "لأنه مبنى مغلق، حصل انهيار في كل زاوية. لم أتوقع أن أرى دماراً بهذا الحجم"، متوقّعاً أن تستغرق عملية إعادة الترميم أكثر من عام حتى يعود إلى سابق عهده، على أن تبلغ التكلفة "ملايين" الدولارات. ويقول "أنا متمسك جداً بهذا المبنى، أشعر وكأنه منزلي".





في العام 1961، فتح متحف سرسق أبوابه للمرة الأولى نزولاً عند رغبة مالك المبنى نقولا سرسق الذي أوصى بتحويل بيته إلى متحف بعد وفاته. وشهد المتحف معارض كثيرة وبقيت أبوابه مفتوحة خلال غالبية سنوات الحرب الأهلية (1975-1990).

ثمّ أغلق المتحف أبوابه ثماني سنوات من أجل ترميمه، ليعود ويفتح أبوابه مجددا في تشرين الأول 2015، ويستقبل عوضاً عن الفنانين ومعارضهم، أعراس الراغبين بأن يحتفلوا في قصر يُشكل جزءاً من ذاكرة بيروت.

وتضرّر جراء الانفجار والزجاج المتطاير ما بين 20 و30 عملاً فنياً، بينها لوحة لنقولا سرسق تعود إلى الثلاثينات ورســمها الفنان الهولندي الفرنسي كيس فان دونغن. لكن الأمر لا ينطبق على "مئات" المباني التراثية في بيروت، التي تصدعت أو تهدّمت خلال المعارك والقصف إبان الحرب الأهلية.





وقدّر وزير الثقافة عباس مرتضى تكلفة إصلاح المباني الأثرية بـ"مئات ملايين الدولارات"، منبّهاً إلى ضرورة بدء العمل سريعاً قبل حلول فصل الشتاء.

ويعمل فريق في وزارة السياحة والثقافة حالياً على تقدير الخسائر، على أمل الحصول على مساعدة خارجية خصوصاً من فرنسا.

ويقول مرتضى "الكثير من العمل ينتظرنا.. إذا حلّ فصل الشتاء من دون أن نفعل شيئاً، سنكون أمام خطر كبير".

وكان مرتضى قد تفقّد مقر المتحف الوطني الذي تعرض لأضرار عدة إثر الانفجار الذي حصل في مرفأ بيروت، ورافقه مدير عام الآثار المهندس سركيس الخوري، ومدير عام الهيئة العامة للمتحف آن ماري عفيش، بحضور رئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير.

وشدد مرتضى على أنه "من غير المسموح لأي كان أن يحاول استغلال الظرف والعبث بتاريخ وتراث بيروت، ومن يحاول أن يستغل الظرف بعمل تخريبي او هدم لأي مبنى تراثي وأثري سيلاحق قانونياً".

واضــــــاف إنّ "الخسائر كبيرة ليس فقط في المتحـف إنما هناك مئات الأبنية التراثية التي تضررت، وهي صورة عن واجهـة بيروت الحقيقيـة التاريخية والثقافية"، آملاً أن "يتم التعويض على المتضررين بعد أن بدأت الدول الصديقة التواصل معنا، لا سيما الدولة الفرنسية التي تولي هذا الامر اهتماماً خاصاً لارتباطها بتاريخ بيروت، إضافة الى عدد من الجهات والمنظمات الدولية المعنية بموضوع الارث الثقافي".

وأشار مرتضــى الى أن وزارة الثقافة "بصدد تشكيل لجنة، تضم الى جانب المعنيين في الوزارة، من تكلفهم الجهات الدولية المعنية بالشق التراثي والثقافي لمسح الاضرار، كما ان العمل جار لاصدار لائحة شاملة مفصلة عن كل الاضرار التي لحقت بالابنية التراثية في بيروت".


MISS 3