جاك ديتش

"الناتو" لا يملك قوات عسكرية كافية

المصدر: test sgdfkahsdjha adh

عناصر من الحرس الوطني النرويجي يشاركون في تدريبات مع جنود أوكرانيين شمال تروندهايم (النرويج - 25 آب 2023)

واجه حلف «الناتو» في معظم مراحل تاريخه مشكلة واحدة: غياب قوات عسكرية كافية. اتّضحت هذه المشكلة في معظم فترات الحرب الباردة، حين نظر «الناتو» إلى ما وراء خطوط حلف وارسو في ألمانيا الشرقية ووجد 6 ملايين عنصر عسكري مقارنةً بخمسة ملايين لديه، بالإضافة إلى عدد أكبر من الوحدات، والدبابات، والطائرات المقاتلة، والغواصات.

منذ ذلك الحين، زادت المشكلة سوءاً. خلال التسعينات والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، خسرت دول «الناتو» جزءاً من قواتها العسكرية ولجأت إلى أسلوب التمويه طوال عشرين سنة من الحروب في الشرق الأوسط. بحلول العام 2014، حين أَمَر الكرملين القوات العسكرية باجتياح شبه جزيرة القرم، اقتصر عدد القوات الأميركية في أوروبا على 30 ألف عنصر. تخبّط المسؤولون في البنتاغون لإقناع الروس بأن ذلك العدد كان أعلى مما هو عليه بعشرة أضعاف.

يقول ديبلوماسي مرموق من إحدى دول «الناتو» (تكلّم شرط عدم الإفصاح عن هويته للتطرق إلى التخطيط العسكري): «يبدو أن «الناتو» نسي أمر جيشه. كان عدد عناصره غير كافٍ للتعامل مع أي أزمة كبرى».

فيما يُحضّر «الناتو» خططه الحربية الجديدة هذه السنة للدفاع عن نفسه في وجه أي هجوم روسي محتمل ضد ثلاثة محاور (الشمال، والوسط، والجنوب)، بدأ الحلف ينشر كلّ الدبابات والمدفعيات والذخائر في مكانها المناسب. لكنه يجد صعوبة في تجنيد ما يكفي من القوات العسكرية. يُخطط الحلف لتدريب 300 ألف عنصر جديد في إطار «قوة الرد المتحالفة» خلال هذا الصيف. لكن لمواكبة مستوى الحشد الروسي، سيحتاج الحلف إلى عدد كبير من عناصر الاحتياط. كذلك، سيضطر «الناتو» لإعادة النظر بما يفعله لجلب قوات عسكرية من الدول الأعضاء.

على هامش المؤتمر الأمني في ميونخ في شهر شباط الماضي، صرّح الملازم روب باور من البحرية الملكية الهولندية، وهو رئيس اللجنة العسكرية في حلف «الناتو»، لصحيفة «فورين بوليسي»: «يجب أن نفكر بأهمية أن نملك جيشاً كافياً لتنفيذ الخطط التي نتفق عليها».

عمدت معظم دول «الناتو» بقيادة الولايات المتحدة، إلى تجنيد قوات عسكرية مؤلفة من متطوعين في آخر نصف قرن، مع أن جميع الرجال المؤهلين في الولايات المتحدة يضطرون للتسجّل في وحدة انتقائية في حال أصدر الكونغرس أو الرئيس الأميركي أمراً ببدء التجنيد.

لكن أدى تراجع معدلات البطالة في الولايات المتحدة ومنطقة المحيط الأطلسي إلى تصعيب تجنيد العدد المطلوب من العناصر. منذ تفشّي فيروس «كورونا»، تابع أرباب العمل الأميركيون إضافة الوظائف، فبقي معدل البطالة بحدود 4 في المئة. في هولندا وألمانيا، يُعتبر مستوى البطالة منخفضاً أصلاً (حوالى 3 في المئة)، ما يعني أن الفئات العاطلة من العمل تسعى إلى تغيير وظائفها أو دخلت سوق العمل للتو. لكن تبرز عوامل مؤثرة أخرى. في الولايات المتحدة على الأقل، يتراجع عدد الأشخاص المطابقين لمعايير التجنيد العسكري لأسباب مرتبطة بالرشاقة، أو الأمراض النفسية، أو النشاطات الإجرامية السابقة، ما يؤدي إلى انحسار عدد المجندين.

برأي الخبراء، يتعلق أبرز عامل وراء تراجع عدد المجندين بغياب أي تهديد وجودي على الأمن القومي الأميركي. تعليقاً على الموضوع، تقول كيت كوزمينسكي، مديرة برنامج الجيش والمحاربين القدامى والمجتمع في «مركز الأمن الأميركي الجديد» في واشنطن: «نحن ضحايا نجاحنا. لا يبدو الشعور بوجود تهديد وجودي قوياً بقدر ما كان عليه، وهو وضع إيجابي. لكن تطرح هذه الظروف بعض التحديات على مستوى تجنيد العناصر».

لم يصل الجيش الأميركي إلى العدد الذي يطمح إليه من المجندين، فبقي بحاجة إلى أكثر من 41 ألف عنصر في السنة الماضية. يبقى الجيش الأميركي الذي يؤدي الخدمة العسكرية راهناً أصغر مما كان عليه منذ ثمانين سنة. كذلك، لم يبلغ الجيش البريطاني الهدف الذي حدّده في أي سنة منذ العام 2010. في الوقت نفسه، انكمش الجيش الألماني بمعدل 1500 عنصر عسكري في السنة الماضية، رغم إطلاق حملة تجنيد واسعة النطاق. وحتى أوكرانيا، التي لا تزال خارج حلف «الناتو»، اضطرت لتخفيض سن التجنيد من 27 إلى 25 عاماً لتجنيد قوات عسكرية كافية وتسهيل التصدي للغزو الروسي.

كذلك، عدّلت روسيا سن التجنيد، فرفعت الحد الأقصى لعمر المجندين من 27 إلى 30 عاماً، لكن اتخذ الكرملين في الوقت نفسه خطوات من نوع آخر، فرفع سن الخدمة العسكرية لإعادة تجنيد جنود قدامى. توضح كوزمينسكي: «يعيد الجيش إذاً تجنيد جنرالات متقاعدين لم يوقفوا شرب الكحول في آخر ثلاثين سنة».

في صفوف الجيش الأميركي، اتّضحت مظاهر الإرهاق والاستنزاف في فروع الجيش القتالية: سجّلت هذه الوحدة معدلات مرتفعة من حالات الانتحار وسط طاقم تشغيل الدبابات العسكرية بين العامين 2019 و2021. كذلك، ارتفعت مستويات التعب وسط قوات الدفاع الجوي، ويتعلق جزء من السبب بمهامها التي تحمل طابعاً عالمياً.

من المتوقع إذاً أن يحاول الأميركيون والأوروبيون إيجاد أشخاص يمكن تجنيدهم. سبق وبدأت مجموعة من الدول مثل إستونيا، وفنلندا، وليتوانيا، والنروج، بتجنيد العناصر منذ فترة. في غضون ذلك، استأنفت لاتفيا عملية التجنيد وعادت السويد، التي جنّدت في مرحلة سابقة نصف شعبها، إلى نموذج التعبئة القديم، وهي تسعى إلى مضاعفة عدد المجندين بحلول العام 2030. في الوقت نفسه، تحاول بولندا مقاومة نموذج جاذبية التجارة، فهي تبني جيشاً فيه 250 ألف عنصر لأداء الخدمة العسكرية وتعمل على إضافة 50 ألف مدافع ميداني (تشبه هذه القوة الاحتياطية نموذج التعبئة الأوكراني)، فيما يبلغ مستوى البطالة حوالى 2 في المئة.

يوضح باور: «إذا كنتم تتكلمون عن الناس وتعجزون عن إيجادهم لأداء خدمة طوعية في إطار جيش احترافي، يجب أن تفكروا بطرق أخرى لإيجاد الناس عبر التجنيد أو التعبئة العسكرية».

في المقابل، لا تواجه روسيا هذا النوع من المشكلات، حتى الآن على الأقل. حذّر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في الفترة الأخيرة من تخطيط الكرملين لنشر 300 ألف عنصر آخر بحلول بداية حزيران، وتظن وزارة الدفاع البريطانية أن روسيا تجنّد 30 ألف عنصر جديد شهرياً عن طريق التجنيد الإجباري في معظم الحالات. سحبت روسيا قواتها العسكرية من حدودها المشتركة مع دول «الناتو» لإرسالها للقتال في أوكرانيا، ومع ذلك يظن المسؤولون الأوروبيون أن الكرملين ينوي مضاعفة عدد القوات التي كان ينشرها على الجناح الشرقي لحلف «الناتو» (19 ألف عنصر) قبل الحرب.

يقول ليون آرون من «معهد المشروع الأميركي» في واشنطن: «هل سيتابع المجتمع الروسي تحمّل هذه التضحيات؟ يخوض بوتين سباقاً طويلاً ضد الغرب، وأوكرانيا، ومجتمعه الخاص». لكن رغم هذا السباق، ذكر نائب وزير الخارجية الأميركي كيرت كامبل، خلال حدث من تنظيم «مركز الأمن الأميركي الجديد» في نيسان أن الولايات المتحدة باتت مقتنعة بأن الجيش الروسي أعاد تشكيل نفسه بشكلٍ شبه كامل.

لكن قد لا ترغب الصين في خوض سباق مماثل ضد الولايات المتحدة أو أي قوى غربية أخرى. على طرفَي الأطلسي، يفكر المسؤولون والخبراء اليوم بتجنيد العناصر كجزءٍ من نظام الردع. يعتبر المسؤولون في «الناتو» خيار نشر وحدتَين أميركيتَين في أنحاء المحيط الأطلسي لتسهيل تنفيذ المادة الخامسة من قانون الطوارئ من أبرز أدوات الردع ضد روسيا، على أن يتراوح عدد القوات المنتشرة بين 45 و90 ألف عنصر.

في النهاية، تقول كوزمينسكي: «في ما يخص السيناريو المرتبط بالصين، تنذر كلّ المؤشرات بأن الصينيين مرعوبون من أي صراع مطوّل. في المقابل، تشير حملة التجنيد في الولايات المتحدة إلى قدرة الأميركيين واستعدادهم لخوض صراع مطوّل. على أمل أن يكون هذا العامل كافياً لمنع الطرف الآخر من إطلاق الرصاصة الأولى».