مجيد مطر

التفسير المطاطي لعبارة "الترتيبات الأمنية"

10 أيار 2024

02 : 00

تكتسب عبارة «الترتيبات الأمنية» أهمية بارزة في القاموس السياسي اللبناني الممانع، فهي تنتمي بمدلولها إلى حقبة الثمانينات بعدما قامت حكومة الرئيس أمين الجميل بالشروع بالتفاوض مع الإسرائيليين برعاية أميركية لتوقيع اتفاق 17 أيار الذي رفضه فريق من اللبنانيين مدعوماً من سوريا، بحجة أنّ ذلك الاتفاق يكرّس ترتيبات أمنية مع العدو، وهذا ما أدى إلى مواجهات عسكرية شرسة بين السلطة وأحزاب لبنانية معارضة رفضت ذلك الاتفاق. ومنذ ذلك الوقت أصبح لتلك العبارة معنى «تحقيري» في الثقافة الممانعة، وتحديداً «حزب الله»، ولمجرد ذكر كلمة «الترتيبات الأمنية» تتحرك منظومة التخوين لكيل الاتهامات التي قد تصل الى حدود الاتهام بالعمالة.

والآن في ظل اشتعال جبهة الجنوب دعماً لغزة حيث يخوض «حزب الله» غمار حرب حقيقية ضد الجيش الاسرائيلي الذي يقوم بدوره برد قاس نتج عنه خسائر بشرية فادحة في صفوف المدنيين الجنوبيين ومقاتلي «حزب الله»، تنشط المبادرات الدولية لفرض تهدئة دائمة على الجبهة الجنوبية عبر اعادة الاعتبار للقرار 1701، وأبرزها المبادرة الفرنسية التي تمّ رفضها من قبل «حزب الله» لشبهة أنها تعيد الحديث عن تكريس «ترتيبات أمنية» مع اسرائيل، وهذا ما يجعل رفضه نمطياً في هذا الصدد. لذا ردّ لبنان على المبادرة بتحفظات وصفت بالجوهرية على بعض بنودها، إنّما من دون القطع معها، حيث وصف بيان وزارة الخارجية اللبنانية المباردة الفرنسية بأنها «تشكل خطوة مهمة للوصول إلى السلام والأمن في جنوب لبنان».

إنما المهم في الموضوع أننا كدولة، وأمام واقع إدخالنا في مواجهة شرسة مع دولة يُجمع لبنان الرسمي والحزبي والشعبي، على أنها دولة عدوان، لم تلتزم يوماً بالقرارات الدولية، الا بما يتوافق مع مصالحها حصراً، وهنا يصبح السؤال ملحاً: هل يمكن التسليم اختزال كل المباردات التي تسعى لمساعدة لبنان، الذي لا يملك ترف الوقت ولا الامكانيات لمواجهة تداعيات تلك الحرب الدائمة على جبهته الجنوبية، بعبارة «الترتيبات الأمنية»؟ وهل هذا التصنيف أو الاستنتاج صحيح؟ وكيف تمّ صراعياً ومصلحياً حصر كل المبادرات في ذلك القالب السياسي الذي يتضمن ايديولوجية ضمنية تقوم دائماً بتفسير بنود المبادرات المطروحة على نحو مطاطي باعتبارها «ترتيبات أمنية» لا تراعي مصالح لبنان، والتي تهدف لفرض وجهة نظر واحدة في كل ما يتعلق بالصراع العربي ــ الاسرائيلي، من دون الأخذ في الاعتبار الصيغة اللبنانية القائمة على التعددية، التي حاول «حزب الله» وحلفاؤه ترجمتها بتكريس الثلث المعطل؟

من المفيد التحديد بدقة مفهوم «الترتيبات الأمنية» وحصر نتائجه لناحية الواقع الذي يكرسه، وهذا التحديد لا يمكن رسم ملامحه الا من خلال استعراض القرارات الدولية المتعلقة بلبنان واسرائيل منذ اتفاق الهدنة لعام 1949 وصولاً إلى القرار 1701.

فالتريبات الأمنية هي كناية عن اجراءات عملانية ترعاها في العادة الأمم المتحدة، تهدف إلى تكريس الهدوء بين لبنان واسرائيل من دون أن يؤدي ذلك إلى التزامات سياسية تجاه الإسرائيليين، خصوصاً وأنّ لبنان يصنّف اسرائيل على أنها دولة عدوة، ويلتزم بمقاطعتها، كما ويعاقب على أي تعامل معها جزائياً.

وإذا استعرضنا بنود اتفاقية الهدنة نجد أنها قد تضمنت الكثير من النقاط الأمنية التي لا يمكن تفسيرها الا بكونها ترتيبات أمنية، لا سيما وأنّها قد وُقعت بعد حرب خاضها لبنان ضد اسرائيل في زمن النكبة الفلسطينية. ففي المادة الاولى يتعهد الطرفان بالامتناع عن القيام بأي عمل عدائي ضد الطرف الآخر، وعدم تحقيق أي فائدة عسكرية أو سياسية من جراء الهدنة، وقد حددت المادة الخامسة عدد الكتائب العسكرية المسموح للطرفين بنشرها على جانبي الحدود، فضلاً عن نوعية الأسلحة. أما القرار 1701 الذي صدر بشأن وقف الأعمال الحربية بين اسرائيل ولبنان والذي وافق عليه «حزب الله»، فقد جاءت كلمة ترتيبات أمنية في متنه بلفظ صريح، حيث دعا إلى اتخاذ ترتيبات أمنية لمنع استئناف الأعمال القتالية، بما في ذلك انشاء منطقة بين الخط الازرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة.

يمكن للمرء أن يتفهم عدم السماح لاسرائيل بتكريس أمنها على حساب لبنان، إنّما من يتجاهل عمداً الأبعاد الاقتصادية والسياسية لاتفاق ترسيم الحدود البحرية لا يمكنه تغطية تجاوزه لسيادة الدولة بالبلاغة اللغوية. يقول ميشال فوكو إنّ اللغة قد تتحول إلى أداة للسلطة... إنّما أي سلطة؟

MISS 3