مارلين كنعان

رواية "وادي المسك" لحسان زين الدين...التماهي مع النور

10 أيار 2024

02 : 04

يقول الحلاج: «من لم يقف على إشاراتنا لن ترشده عباراتنا». تصحّ هذه العبارة في رواية حسّان زين الدين العرفانية الموسومة بـ»وادي المِسك» الصادرة حديثاً في بيروت عن دار «الأنام» للطباعة والنشر(2024). فهي مليئة بالإشارات التي تتفتح على رؤىً صوفية وفلسفية ترتبط بأحوال العارف الباحث عن ذاته والساعي وراء معنى الوجود على الصعيدين الفردي والكوني.



أبطال هذه الرواية فراشات يافعات، ذكور وإناث، ويعاسيب ونمل ويراعات وغيرها من الكائنات الحية الإنسية والحيوانية من السائرين على طريق المجاهدة وترويض النفس، العاملين على تحرير الذات من علائق المادة وشهواتها وغيرها من الشواغل التي تعيق التقدّم نحو «القمم المرتفعة» و»اختراق حقيقة اللهب» تلبية لنداء النار الغامض بغية التماهي مع النور والحضور في «روح الكل» أو «الأنيما»، الإسم اللاتيني لصورة الروح الأنثوية لدى الرجل التي تحدث عنها كارل غوستاف يونغ، والتي تسعى الفراشة «زارا» نحوها بكل ما أوتيت من قوة.

قراءة هذه الرواية ممتعة. لكن سبر أغوارها يحتاج إلى شحنة من الروحانيات والرؤى الفلسفية. دونها لن يسافر القارئ على أجنحة فراشاتها نحو أفق الإشارة ومعاينة الجمال في مسلك غايته بلوغ أسمى درجات المعرفة والتطلع إلى المكاشفات التي تتطلب العزلة والصمت وتخلية القلب وتحليته بلباب الفضائل والتقابل الذي يعكس الحقيقة.

في شكل من أشكال الإسقاط، يختزل حسّان زين الدين في صورة الفراشات أحوال النفس الإنسانية التي يزخرفها بخطوط المجاز مستعيناً في سرديته بأقصى قدرات اللغة على التكثيف والاختزال. فيصور من خلال حوارات زارا المنتمية فصيلتها إلى وادي المسك مع اليعسوب دراغونيا والفراشات ليلى وريشا وسمندل ونورا وغلاسيا والهدهد وغيرها رؤيته للمصير والعالم، متجاوزاً شفافية العبارة بعمق الإشارة فاتحاً باب التأويل، مما يمنح روايته جمالية خاصة تجمع بين أناقة المبنى وعمق المعنى.

ليست المرة الأولى التي أقرأ روايةً تعالج أحوال الروح والذات على لسان الطيور والفراشات والنمل وغيرها من الكائنات الحية. ولعل «منطق الطير» للشاعر الفارسي الكبير فريد الدين العطار والرحلة الطويلة التي قطعتها الطيور في بحثها عن ملكها المقيم في جبل قاف تشبه، بمعنىً ما، رحلة الفراشة زارا ورفيف أجنحتها التي تقطع التلال والأودية كي تصل إلى القمة، مصغية فقط إلى صوت في داخلها يدعوها إلى البحث عن النور الذي لا يدنى منه والذي تودّ ملاصقته بكيانها؛ أو قصيدة إدموند سپنسر «قدر الفراشة» المنجذبة إلى رحيق الأزهار والضوء والنار والتي تُفهَم على أنها رمز إلى رحلة روح المتصوف وتلاشيها في الجمال الإلهي، كما في رحلة الفراشة إلى اللهب التي وصفها الشاعر العارف النقشبندي عبد الغني النابلسي في قصيدة من ديوان «الحقائق».

يمكن القول إن رواية «وادي المسك» قد تسامت في موضوعها إلى مستوى آخر من الوعي في خضمّ خواء عالمنا المادي وأسئلته الكثيرة، ولعلّها تقدّم لنا كتابة تضبط الإيقاع الحقيقي للوجود وتعيدنا إلى تطلّعات الإنسان وهمومه الأساسية بلغة تمزج بين الخطاب القائم على المحادثة والمحاورة والمنفتح على معارج الروح السالكة سبيل الحقّ ومراتبه السامية.

MISS 3