أمبرين زمان

مظاهر التعذيب تتزايد في تركيا في عهد أردوغان

15 آب 2020

المصدر: Al Monitor

02 : 00

ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان الفاضحة والاختفاء القسري وجرائم القتل في عهد رجب طيب أردوغان في تركيا يرفعون الصوت في هذا التقرير المفصل الذي يتحدّثون فيه عما عانوه مع نظام مستبد لا يتوانى عن ممارسة القمع والتنكيل بكل من يعارضه من أكراد أو معارضين فيعرّضهم لأشدّ أنواع العذاب رغم ادعائه زيفاً الانفتاح واحترام حقوق الانسان.

يقول إرهان دوغان، مدرّس كردي عمره 39 عاماً من محافظة "إيلازيغ" التركية الشرقية، إنه تعرّض للتعذيب للمرة الأولى عشية 26 تموز 2016. بدأت هذه المرحلة غداة اعتقاله على يد الشرطة التركية في أنقرة بتهمة الإرهاب.

في التفصيل، تعرّض دوغان للضرب والركل في ضلوعه وعلى رأسه بشكلٍ متكرر وكانت يداه مكبّلتَين خلفه، كما أنه عُلّق بحبلٍ مربوط بمعصمَيه طوال ساعتين في كل مرة وبقي معصوب العينين وهدّدوه بالاغتصاب فيما راح معذّبوه يمررون هراواتهم على مؤخرته وبين ساقيه. كذلك، سُكِب دلو من الماء المثلّج على رأسه قبل أن تبدأ حصة التعذيب كلها من جديد. وحين هدّده المحققون باغتصاب زوجته وابنته إذا لم يُعْطِهم الأسماء التي يريدونها، فهم دوغان أنهم جدّيون في تهديداتهم لأنه شاهد ثلاث شابات يدخلن إلى مركز الاعتقال الموقّت وسمع صرخات الألم الصادرة عنهنّ.

يتذكّر دوغان ما حصل قائلاً: "قررتُ في تلك اللحظة أن أقتل نفسي. حصل ذلك في اليوم الخامس. كنت أنوي أن أعقد قميصي القطني على شكل حبل مشنقة وأعلّقه من أنبوب فوق المرحاض، لكنّ إيماني منعني من فعل ذلك. في اليوم التاسع، قيل لي إنني سأُنقَل إلى سجن "سنجان" في أنقرة. شعرتُ بأنني تلقيتُ مكافأتي وانتابتني سعادة عارمة".



إحدى الأمهات المطالبات بمعرفة مصير إبنها الذي شوهد لآخر مرة هو ورفاقه في أيدي قوى الأمن التركيّة، في وسط اسطنبول، في 1 أيلول 2018



وصل "حزب العدالة والتنمية" الحاكم إلى السلطة في تركيا منذ 18 سنة وتعهد بـ"عدم التسامح" مع أعمال التعذيب. بدا صادقاً في وعده خلال فترة معينة. كان زعيم الحزب رجب طيب أردوغان مصمّماً على إنهاء سطوة الجيش على السياسة لأنه يعرف إلى أي حد يكرهه العسكريون ويكرهون جماعته الإسلامية. كان إنهاء وصاية الجيش من أبرز الشروط التي طالب بها الاتحاد الأوروبي لإطلاق محادثات شاملة حول انتساب تركيا إليه.

أطلق "حزب العدالة والتنمية" مجموعة سريعة من الإصلاحات المدهشة التي تهدف إلى وضع البلد على مسار الديموقراطية الشاملة. لم يعد الجنرالات يستطيعون إصدار الأوامر عن طريق مجلس الأمن القومي، وتراجعت الضغوط على الأكراد بعدما كانوا يتعرضون لقمع وحشي في تركيا، وبات الأزواج المتّهمون باغتصاب زوجاتهم يُعتبَرون مجرمين وحُرِموا من صفة "رب العائلة" بموجب قانون مدني مُعدّل أقرّه المشرّعون التابعون لـ"حزب العدالة والتنمية" نتيجة الضغوط التي مارستها النساء الناشطات اجتماعياً. كذلك، أصبح وجود المحامي خلال استجواب المعتقلين قبل المحاكمة إلزامياً بعدما كانت هذه المرحلة من التحقيق تشهد اعترافات قسرية تحت التعذيب سابقاً.

خلال فترة قصيرة، "كان الأمل بالتغيير حقيقياً" برأي شيبنام كورور فينجانجي، طبيبة شرعية ورئيسة "مؤسسة حقوق الإنسان" التركية التي تعالج ضحايا التعذيب. لكنها صرّحت لموقع "المونيتور" خلال مقابلة حديثة عبر الهاتف بأن تلك الآمال تلاشت اليوم وعادت ممارسات التعذيب "بأسوأ أشكالها". يثبت قمع وسائل الإعلام المستقلة ومتابعة اعتقال النقاد الصحافيين (يقبع أكثر من 80 صحافياً وراء القضبان وفق آخر الإحصاءات) فإن الانتهاكات لا يتم الإبلاغ عنها، باستثناء مجموعة صغيرة من مواقع الأخبار المعارِضة على الإنترنت.

أعلنت المنظمة الدولية "هيومن رايتس ووتش" في تقرير بتاريخ 29 تموز أنها تملك أدلة مثبتة مفادها أن عناصر الشرطة التركية وقوة متضخمة من "حراس الليل" وأصحاب الصلاحيات الواسعة ارتكبوا انتهاكات فاضحة خلال الشهرَين الأخيرين ضد 14 شخصاً على الأقل في اسطنبول ومدينة ديار بكر الكردية في جنوب شرقي البلاد. يذكر التقرير: "في جميع الحالات ادّعت السلطات، من دون طرح أي أدلة، أنّ من يزعمون تعرّضهم لسوء المعاملة رفضوا اعتقالهم وقاوموا الشرطة بطريقة عنيفة".



ارهان دوجان وعائلته بعد لمّ شملهم في أوروبا في 21 أيار 2020



وضع مؤسف وحزين


كان سيموس يلماز، عامل من ديار بكر عمره 35 عاماً، وزوجته مينيس من بين الضحايا. اقتحمت الشرطة شقتهما في منطقة "باغلار" المنخفضة الدخل من دون أي إنذار مسبق في منتصف ليل 31 أيار. صرّح يلماز لموقع "المونيتور" خلال مقابلة عبر الهاتف من ديار بكر: "حضر حوالى 20 شرطياً وثلاثة كلاب من فصيلة الراعي الألماني. طاردوا في البداية زوجتي التي هربت مع أولادنا الثلاثة نحو غرفة أخرى وأطلقوا عليها أحد الكلاب. كنتُ نائماً ثم استيقظتُ على وقع هذه المعمعة. وحالما دخلتُ إلى غرفة المعيشة، هجم عليّ رجال الشرطة وراحوا يركلونني ويضربونني بأعقاب البنادق فيما بدأت الكلاب تعضّني من جميع الجهات. راحوا يصرخون: "هذا هو! أمسكوه! اقتلوه"!

كانوا يبحثون عن رجل آخر متّهم بقتل شرطي. أُلقي القبض على محمد أمير جورا في وقتٍ لاحق من ذلك اليوم. وفق منظمة "هيومن رايتس ووتش"، أقدم رجال الشرطة على تجريد جورا من ملابسه واعتدوا عليه بهراواتهم وضربوه بقبضات أيديهم. كما هدّدوه بالاغتصاب وخنقوه إلى أن فقد الوعي وسقط أرضاً في مركز الشرطة المحلي وفق مصادر محاميه. نُشِرت الصور المرتبطة بهذا المشهد على مواقع التواصل الاجتماعي.

احتاج المعتدون على يلماز إلى خمس دقائق من العنف الوحشي قبل أن يدركوا أخيراً أنه يقول الحقيقة حول هويته.

وصل فريق جديد من رجال الشرطة بعد وقتٍ قصير للاعتذار عن الخطأ السابق وطلبوا من يلماز ألا يرفع دعوى جنائية وتعهدوا باستبدال الباب المكسور. لكنّ يلماز قرر رفع دعوى وقدّم تقريراً طبياً يذكر تفاصيل إصاباته. ردّ مكتب حاكم "ديار بكر" عبر بيان بتاريخ 3 حزيران مفاده أن يلماز مُلام على ما حصل لأنه "قاوم الشرطة" و"ركل" الكلب. لم تُصلِح السلطات بابه في المرحلة اللاحقة.

تقول إيما سينكلير ويب، مديرة فرع "هيومن رايتس ووتش" في تركيا، خلال مقابلة عبر الهاتف: "بدأت ممارسات التعذيب وسوء المعاملة وعنف الشرطة عموماً تتخذ منحىً طاغياً وتزيد التقارير المرتبطة بها. لطالما كانت مظاهر الإنكار وغياب المحاسبة راسخة في هذا البلد، لكن تُصدِر السلطات اليوم بيانات إنكار لمنع التحقيق بالانتهاكات الحاصلة. إفلات الكلاب ظاهرة جديدة، ومن المريع أن تُستعمَل لِعَضّ الناس وترهيبهم. لم تشمل الحالتان اللتان حللناهما أي قنابل أو مخدّرات، فما الداعي إذاً لاستعمال الكلاب"؟

في تحوّل خطير آخر للأحداث، امتدت ثقافة الإفلات من العقاب إلى ما وراء الحدود التركية ووصلت إلى شمال سوريا حيث تحتل القوات التركية مساحات واسعة من الأراضي. وضعت الأمم المتحدة التقارير المرتبطة بسوء المعاملة والاعتداءات الجنسية وجرائم القتل التي يرتكبها الثوار السوريون الناشطون تحت إشراف الأتراك بمصاف "جرائم الحرب". في الوقت نفسه، تعمد القوات التركية إلى خطف واعتقال السوريين المتّهمين بالتورط مع الإرهابيين رغم قلة الأدلة التي تثبت تلك الادعاءات، وتشكّل هذه الأفعال انتهاكاً فاضحاً لاتفاقية جنيف وفق جماعات حقوق الإنسان.

لم يُعلّق المسؤولون في وزارتَي الداخلية والعدل على ادعاءات التعذيب المفصّلة في تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش".

تقول فينجانجي إنها لم تعد تتحاور مع أحد في الحكومة. في ظل تنامي نفوذ الشعبويين اليمينيين والمعادين للمسلمين والمهاجرين في دول الاتحاد الأوروبي، "لا يهتم الكثيرون اليوم بما يحصل في تركيا" و"لم تعد الحكومة التركية تهتم برأي الاتحاد الأوروبي". نتيجةً لذلك، تشعر الجماعات الحقوقية بضعفٍ متزايد. تتساءل فينجانجي: "هل يستطيعون إسكاتنا؟ نعم، يستطيعون"!

ذكر الاتحاد الأوروبي في أحدث تقرير مرحلي سنوي حول انتساب تركيا إليه في أيار 2019 أن "ادعاءات التعذيب وسوء المعاملة تشكّل مصدر قلق كبير حتى الآن. أدت إطالة مدة حالة الطوارئ بشكلٍ متكرر إلى انتهاكات كبرى لحقوق الإنسان، وفشلت الحكومة في اتخاذ الخطوات اللازمة لإجراء تحقيق جدّي ومعاقبة عناصر قوى الأمن والمسؤولين الآخرين المتّهمين بانتهاك حقوق الإنسان. أدى إلغاء الضمانات الأساسية عبر مراسيم طارئة إلى تفاقم مظاهر غياب المحاسبة بحق مرتكبي تلك الجرائم وانتشار ادعاءات حول زيادة حالات التعذيب وسوء المعاملة أثناء الاعتقال".

بدأت هذه الانتهاكات تنتشر في أنحاء البلد بعد محاولة إسقاط أردوغان بعنف في 15 تموز 2016. تقول الحكومة إن العقل المدبّر وراء محاولة الانقلاب هو فتح الله غولين المقيم في بنسلفانيا، وهو زعيم شبكة عالمية سنّية مسلمة من المدارس والشركات. كان الرجلان حليفَين في السابق وقد وصل آلاف الأشخاص من مناصري غولين إلى مناصب رفيعة المستوى قبل أن تنهار تلك الشراكة في العام 2013 بسبب طريقة توجيه البلد واستغلال السلطة. ينكر غولين أي تورط له في هذه المسألة. لكن تعرّض عشرات الآلاف من أتباعه في الجيش والأوساط البيروقراطية والأكاديمية ووسائل الإعلام وقطاع الأعمال لحملة تطهير واسعة وسُجنوا بسبب ارتباطهم بالإمام غولين تحت غطاء حالة الطوارئ التي لم تُرفَع قبل تموز 2018. طُرِد 50 ألف عنصر من القوات المسلحة وحدها.

تضيف سينكلير ويب: "منذ محاولة الانقلاب، تُراجع الحكومة الحالات التي نوثّقها وتردّ علينا عبر اعتبار الضحايا مجرمين أو قيد التحقيق بتهمة الإرهاب. هي تغفل عن ادعاءات التعذيب وتصرّ على إنكار كل شيء في نهاية المطاف. يثبت هذا الموقف أنها تتغاضى عما يحصل".



جروح في ذراع سيموس يلماظ، 31 أيار 2020



تجارب مريعة


كان المعلّم دوغان من أوائل من سيقوا إلى مقر مديرية الأمن في أنقرة، حيث وُضِع مئات الضباط العسكريين تحت الإقامة الجبرية عند فشل الانقلاب. صرّح دوغان في مقابلة مدتها ثلاث ساعات مع موقع "المونيتور": "كان الدم الجاف يغطي الجدران وارتدى حوالى ألف رجل من أعمار مختلفة ملابس برتقالية تشبه الزي الشائع في غوانتانامو. احتُجِزت النساء في قسم مختلف. أُجبِرنا على الركوع والحفاظ على استقامة أجسامنا طوال ساعات متواصلة. وكلما انحنى أحدنا من التعب، كان يتعرض للضرب. مُنِعنا من الكلام وكل من يتكلم ضُرِب أيضاً. من وقتٍ لآخر، كان الحارس يعدّد مجموعة أسماء لأخذهم إلى قسم الزنزانات حيث تحصل أعمال التعذيب. إنها اللحظة التي يخشاها الجميع".

استُدعي دوغان خمس مرات وكانوا ينادونه بعبارة "الوغد الكردي"!

تبدأ حصة التعذيب في الساعة الحادية عشرة ليلاً وتدوم حتى الخامسة فجراً وتحصل على يد رجال ملتحين يرتدون ملابس مدنية ويطلقون شعارات إسلامية وعنصرية. لم تتغير مطالبهم: أرادوا منه أن يكشف لهم أسماء أبرز الشخصيات التابعة لغولين ويعترف بأنه اختار زوجته من "دليل عرائس أنصار غولين" وأنه عضو في ما تسمّيه السلطات "منظمة فتح الله الإرهابية". لكن يقول دوغان إن الكردي في داخله رفض الاستسلام!

بعد كل حصة تعذيب، يقول دوغان إنه كان يُساق إلى مكتب حيث تكتب طبيبة تقارير مفادها أن المعتقلين بحالة جسدية جيدة من دون أن تأخذ عناء فحصهم.

لم يستطع المدّعون العامون إثبات تورط دوغان في مخطط الانقلاب، علماً أنه كان يعلّم في مدرسة تابعة لحركة غولين وقد أغلقت أبوابها على غرار مئات المدارس الأخرى في العام 2013. وبعدما أمضى دوغان 16 شهراً وراء القضبان، حُكِم عليه بالسجن لسبع سنوات وستة أشهر بتهمة الانتساب إلى "منظمة فتح الله الإرهابية" ثم أُطلِق سراحه بموجب قرار الإفراج المشروط. لكنه هرب من تركيا في آب 2018 بمساعدة المهرّبين وعَبَر نهر "إيفروس" في مركب مطاطي نحو اليونان. حصل حديثاً على حق اللجوء في أحد بلدان أوروبا الشمالية وانضمّت إليه زوجته وأولاده الثلاثة. تعاني ابنته البالغة من العمر 16 عاماً من مشاكل نفسية حتى الآن، فتسحب رموشها وحاجبَيها بطريقة قهرية. يؤكد دوغان على أنه لن يعود مطلقاً إلى تركيا بعدما نبذه أقرب المقربين إليه.

تأكدت قصة دوغان عبر الادعاءات التي ظهرت خلال الأسبوع الماضي في شهادة أدلى بها ملازم أول من "قوات العمليات الخاصة" أمام المحكمة ونشرها موقع "بولد ميديا". هذا الموقع الإخباري الإلكتروني محظور في تركيا وقد أسّسه في الأصل صحافيون منفيون كانوا يعملون سابقاً لصالح منشورات موالية لحركة غولين. تكلم موسى كيليجاسلان، الذي حصل على وسام من أردوغان بسبب قتاله ضد المتمردين الأكراد، أمام المحكمة عن تجربته في مركز الأمن نفسه بعد اعتقاله غداة الانقلاب الفاشل، فقال إن أرضية ذلك المركز كانت مغطاة بالدم والبول واضطر السجناء للجلوس عليها. أدت ممارسات التعذيب التي تحمّلها إلى كسر ضلوعه وإعاقة قدرته على التحرك، لكنه رأى مشاهد أكثر فظاعة.





فقال إن ضابطة بملابس النوم تعرّضت لضرب متكرر أمام أنظاره في مستوصف مديرية الأمن: "كانت متقوقعة على السرير وكأنها تشعر بالعار مما أصابها. ثم بدأوا يجرّدونها من ملابسها وأخبروها بأنهم سيأخذونها إلى القبو لاغتصابها جماعياً. هذا ما فعلوه بضابطة من القوات المسلحة". تبيّن لاحقاً أن تلك المرأة لم تخرج من منزلها عشية الانقلاب وهذا ما يفسّر ارتداءها ملابس النوم عند اعتقالها. يقول كيليجاسلان إنهم أطلقوا سراحها لاحقاً.

يقبع كيليجاسلان حتى الآن في سجن أنقرة. في حزيران الماضي، ذكرت وكالة "الأناضول" الإخبارية الحكومية أن المحكمة حكمت عليه بالسجن المؤبد، من دون إطلاق سراح مشروط، إلى جانب 85 مدّعى عليهم آخرين بعد إدانتهم بتهمة المشاركة في محاولة الانقلاب في مقر الدرك في أنقرة.

جوهري غوفين هو صحافي استقصائي سُجِن مرتين لأنه عمل في منشورات مؤيدة لفتح الله غولين. هرب مع عائلته إلى ألمانيا بعد محاولة الانقلاب، وهو يجمع منذ ذلك الحين قصص أشخاص تعرّضوا للتعذيب بعد تلك المرحلة وينشرها على موقع "بولد ميديا" الذي عرض قصة دوغان عبر فيديو يسرد فيه تجاربه المريعة بصوتٍ متقطع. يقول غوفين لموقع "المونيتور" في مقابلة عبر الهاتف إن وصف دوغان لمركز الأمن يتماشى مع ما سمعه من ثلاثة رجال آخرين احتُجِزوا هناك.

يظن الناشطون الحقوقيون أن محاولات السلطة مقاضاة المخططين للانقلاب مبرّرة، فقد قُتِل ما يفوق المئتَي شخص في تلك الليلة وأُصيب أكثر من ألفَين. أمطر الانقلابيون البرلمان بالقنابل وشوهد رجال معروفون بقربهم من غولين في قاعدة "أكينجي" الجوية في أنقرة، وهي مقر المخططين، وفي نقاط أساسية أخرى من المدينة عشية انطلاق التحركات. لكنّ ادعاءات التعذيب تطغى على مبررات الحكومة وتقلب الوضع ضدها.

يقول إردال دوغان، محامٍ ناشط في المجال الحقوقي في اسطنبول، إن الحكومة والبرلمان كان يُفترض أن يحققا بادعاءات التعذيب المشابهة للأحداث التي وصفها دوغان وكيليجاسلان ووثّقتها منظمة العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش" و"جمعية الحقوقيين المعاصرين" غداة الانقلاب الفاشل مباشرةً. لكن يقول دوغان إن المسؤولين "لم يفعلوا ذلك مطلقاً! لقد أضاعوا تلك الفرصة"!

نادراً ما تعرض وسائل إعلام المعارضة في تركيا تقارير غولين وزملائه، فكيف بالحري تلك الموالية لأردوغان؟ ثمة نفور دائم من أتباع غولين في أوساط اليساريين والليبراليين العلمانيين. وقع صحافيون يحملون العقلية نفسها ضحية حملات تضليل نظّمها أتباع غولين لدحض التقارير التي تنتقد أفعالهم حين كانوا في ذروة نفوذهم بين العامين 2003 و2011. سُجِن الكثيرون بتُهَم مفبركة حينها وصرخ الصحافي أحمد سيك أثناء اعتقاله في العام 2011: "يكفي أن نلمسهم كي نحترق"!

كان سبب "احتراق" سيك واضحاً، فهو أصدر كتاباً بعنوان "جيش الإمام" عن نزعة غولين إلى السيطرة على مقاليد السلطة.

بدأ التدقيق بهذه الجماعة جدّياً حين اتّضح أن المدّعين العامين التابعين لحركة غولين وحلفاءهم كانوا يتلاعبون بالأدلة ويفبركونها ضد مئات ضباط الجيش الذين سُجنوا عن غير وجه حق وحوكموا بالتهمة التي يواجهها عشرات الآلاف من أتباع غولين اليوم: التخطيط لانقلاب مزعوم.

تقول فيرديفز روبنسون، خبيرة في شؤون تركيا والقوقاز وآسيا الوسطى في لندن وداعمة لحرية التعبير: "لطالما كان التعاطف والغضب الانتقائيان مشكلة طاغية في تركيا. تترافق الحركات الداعمة لحقوق الإنسان وحرية التعبير مع كلفة باهظة في هذه الأيام. يشعر الكثيرون بضرورة تركيز طاقتنا على المجالات التي تشهد أكبر المشاكل".

تضيف روبنسون في تعليقات أرسلتها إلى موقع "المونيتور" عبر البريد الإلكتروني: "يبدو أن أكاذيب حركة غولين ومكائدها في الماضي وعدم محاسبتها تمنع الجميع، حتى أصحاب المبادئ، من الدفاع عنها علناً اليوم. لكن مثلما نعجز عن انتقاء الحقوق التي نريد الدفاع عنها، لا يمكننا أن نكون انتقائيين في تطبيقها أيضاً".

يُعتبر عمر فاروق غيرجيرلي أوغلو، نائب عن "حزب الشعب الديموقراطي" المؤيد للأكراد وعضو في لجنة حقوق الإنسان في البرلمان، شخصية عامة نادرة لأنه كرّس حياته لتحقيق العدالة في قضايا مختلف الضحايا، سواء كانوا من أتباع غولين أو الأكراد أو المثليين. تتمحور قضيته المفضلة حول أكثر من 800 مولود جديد سُجِنوا مع أمهاتهم والمختفين قسراً.

منذ كانون الثاني 2016، يُقال إن 28 شخصاً على الأقل اختفوا بعدما خطفهم أعضاء مزعومون من "منظمة الاستخبارات الوطنية" التركية واحتُجِزوا في مواقع مشبوهة في أنقرة بحسب قول غيرجيرلي أوغلو. أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريراً عن بعض الحالات المماثلة في نيسان الماضي، وكتبت "نقابة المحامين في أنقرة" تقارير عن تلك القضايا أيضاً. لا يزال رجلان منهم في عداد المفقودين حتى الآن.





اختفى رجل ثالث اسمه يوسف بيلغي تونج خلال الحملة التي تَلَت محاولة الانقلاب، وهو موظف سابق في "أمانة صناعة الدفاع" التركية. طُرِد هذا الأخير من عمله واختفى في أنقرة في 6 آب من السنة الماضية. يُقال إن اختفاءه مرتبط بقضايا أخرى، لكنّ هذه المعلومة غير مؤكدة بعد.

احتاجت السلطات إلى أكثر من ثلاثة أشهر كي توافق على طلب زوجته بإطلاق تحقيق بالقضية. تزداد المخاوف على حياة تونج مع مرور كل يوم جديد. يأخذ والده مضادات اكتئاب الآن، ويظن أولاده الثلاثة (بعمر العاشرة والسابعة والثالثة على التوالي) أنه موجود في مكان لا يمكن الاتصال به.

هؤلاء الرجال متّهمون بإدارة وتجنيد عملاء من "منظمة الاستخبارات الوطنية" لصالح غولين. لم يتّضح بعد سبب اختفائهم بدل اعتقالهم رسمياً. يقول مدافع عن حقوق الإنسان يفضّل عدم الإفصاح عن اسمه: "جميع هؤلاء الرجال يُستعمَلون ضد بعضهم البعض. إنه نوع من تصفية الحسابات الداخلية. يتسلل هؤلاء العملاء إلى جميع مجالات الحياة وتستعمل "منظمة الاستخبارات الوطنية" أساليب وحشية خاصة بها".

في مطلق الأحوال، أصبح غياب المحاسبة في "منظمة الاستخبارات الوطنية" واضحاً، ومع ذلك لا تحاول المنظمة إخفاء ممارساتها. يضيف غيرجيرلي أوغلو خلال مقابلة عبر الهاتف: "حين كان الناس يختفون في الماضي، كانت الحكومة تبذل الجهود اللازمة لتنفيذ العمليات سراً. لكنها تقوم اليوم بكل شيء في وضح النهار".

كان يتكلم تحديداً عن قضية الرجلَين ياسين أوغان وأوزغور كايا اللذين اختفيا في 13 شباط من السنة الماضية من شقة في حي "ألتينداغ" في أنقرة حيث كانا يختبئان لتجنب اعتقالهما.

سارع غيرجيرلي أوغلو حينها إلى ذلك الموقع بعدما اتصل به المقربون من الرجلَين المفقودَين. فاستجوب الجيران وسمع القصة نفسها منهم: حاصر حوالى 50 شخصاً المبنى، بعضهم بالزي العسكري والبعض الآخر بملابس مدنية، ثم اقتحموا شقة الرجلَين وساقوهما بعد وضع أغطية سوداء على رأسَيهما في منتصف النهار. انتُزِعت كاميرات الأمن من المنطقة ولم يشاهد أحد أوغان وكايا في ذلك الحي مجدداً. يقول غيرجيرلي أوغلو إن مطالبته بمعلومات عن مكانهما لم تلقَ أي جواب من جانب وزارتَي العدل والداخلية. ورفضت لجنة حقوق الإنسان في البرلمان، برئاسة نائب من "حزب العدالة والتنمية"، طلبه بالتحقيق في أسباب اختفائهما. كملجأ أخير، دعا نائب وزير الداخلية إلى الكشف عن آخر المعلومات التي تعرفها اللجنة عن هذه القضية. يضيف غيرجيرلي أوغلو: "حصل ذلك في شهر حزيران. فوافق على الحضور. وحين سُئل عن الرجلَين المفقودين، أجاب ضاحكاً: "نحن نبحث عنهما أيضاً! إذا عثرتَ عليهما، أبلغنا بذلك من فضلك". لم أعرف إذا كان يجدر بي أن أضحك أو أبكي".

في 28 تموز، أعلنت مديرية الأمن في أنقرة عن العثور على أوغان وكايا مع رجلَين آخرين اختفيا أيضاً من اسطنبول وبلدة أدرنة على التوالي "حين كانوا يسيرون معاً" في أنقرة. يقول غيرجيرلي أوغلو: "كان يُفترض أن نصدّق هذه الكذبة"! بالكاد تعرّفت عليهما زوجتاهما، فقد خسرا جزءاً كبيراً من وزنهما وأصبحت بشرتهما شاحبة جداً. عاد آخرون كانوا قد اختفوا لأشهر طويلة في ظروف غامضة أيضاً وظهرت عليهم آثار سوء المعاملة.

تعليقاً على الأسباب التي تفسّر عدم تلقي القضايا التي تشمل أتباع غولين انتباهاً كبيراً، تظن فينجانجي أن الضحايا وعائلاتهم، على عكس الجماعات المضطهدة الأخرى، لا سيما الأكراد، "يفضّلون التزام الصمت". عرضت عليهم "مؤسسة حقوق الإنسان" المساعدة بشكلٍ متكرر "لكنهم لا يتجاوبون معها".

يتعرّض العدد القليل الذي يجرؤ على التكلم لعقاب سريع. تنظّم ملك شتين كايا احتجاجات فردية منذ أربع سنوات: كان ابنها فوركان من بين 355 عسكرياً متدرباً حُكِم عليهم بالسجن المؤبد بسبب تورطهم بمحاولة الانقلاب. اعتُقلت هذه الأم أكثر من 30 مرة لأنها تطالب بالعدالة لابنها الذي كان يبلغ 19 عاماً فقط عند اعتقاله. تُصِرّ شتين كايا على أنه لا يرتبط بحركة غولين. اعتُقِلت مجدداً في وقتٍ سابق من هذا الشهر بتهمة نشر حملات دعائية داعمة للإرهاب بعدما ظهرت على قناة "أكيت تي في" الموالية للحكومة. كانت جريمتها تتعلق برفضها اعتبار غولين وجماعته "إرهابيين" خلال المقابلة.

في شباط الماضي، كسر غوكان تركمان، أحد الرجال المفقودين سابقاً، حاجز الصمت خلال جلسة المحكمة وكشف أن عملاء "منظمة الاستخبارات الوطنية" تابعوا الضغط عليه بعد اعتقاله رسمياً كي لا يكشف الحقيقة عن أفظع تعذيب تعرّض له على مر فترة احتجازه طوال 271 يوماً. وفي حزيران الماضي، حذا أوغان حذوه خلال جلسة محاكمته، فاعترف بأنه واجه الممارسات القسرية نفسها من جانب عملاء "منظمة الاستخبارات الوطنية"، فزاروه في السجن وأجبروه على توقيع اعتراف خاطئ مفاده أنه جزء من الأئمة التابعين لحركة غولين في المنظمة". لكنّ أوغان ينفي هذه الاتهامات كلها.

يقول محامي أوغان، أنيل أرمان أكوس، إن موكّله تعرّض لمجموعة متنوعة من أساليب التعذيب خلال فترة اعتقاله في موقع مشبوه في أنقرة. صرّح أكوس لموقع "المونيتور" خلال مقابلة عبر الهاتف: "أنا لم أسمع ببعض طرق التعذيب يوماً، بما في ذلك دخول السجين إلى بيت كلب وهو معصوب العينين ومكبّل اليدين واضطراره للانحناء هناك طوال ساعات. إنه مستوى غير مسبوق من التعذيب"!