نبيل منوال يونس

مانيفست الجمهـوريةِ اللُبنانيةِ الفيدراليَة الموحَّدَة

19 آب 2020

02 : 00

"قد ولدتم معاً وستظلون معاً.... فليكن بين وجودكم معاً فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض حتى ترقص أرياح السموات في ما بينكم... قفوا معاً ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً لأن عمودي الهيكل يقفان منفصلين"، جبران خليل جبران.

بعد أن فوّت لبنانُ فرصةَ اعتمـادِ الحيادِ العربي ومن ثمَّ الحيادِ الإقليمي أصبح نظامُهُ غيرَ صالحٍ للتوفيقِ بينَ تَعايشِ الفئاتِ اللبنانيةِ وبينَ ارتباطِ كلٍ منها بمحورٍ إقليمي، وأصبحتِ الصيغةُ وشكلُ الدولةِ غيرَ قابلين للترميمِ وغير صالحين للتعايُشِ وللإستقرارِ السياسي وللسلمِ الأهلي، فأصبحت وحدةُ لبنان في خطر. إن هذه الحالة تستلزمُ استبدالَ النظامِ السياسي اللبناني برمّتِهِ بنظام وصيغة جديدين تكون غايتهما الأساسيةُ تأمينَ سلامةِ تعايشِ طوائف لبنانَ والمحافظة على وحدتهِ.

فما هو النظامُ البديل؟

بغية التوصُّلِ الى خيارٍ صحيحٍ يقتضي الأخذُ بالإعتِبارِ الملاحظاتِ الآتية:

أولاً، تتكوّنُ الدولُ من عناصرَ لهـا تأثيرٌ جامعٌ ومُوَحِّدٌ للدولة facteurs fédérateurs ومن عناصرَ تفريقيةٍ لهـا مفاعيلٌ سلبيةٌ على وحدَتِهــا facteurs centrifuges.

يجمع اللبنانيين الهوية والمشاعرُ الوطنيةُ اللبنانية والحسُ بالمواطَنَة وبالانتماءِ اللبناني وبثقافةٍ ولغةٍ لبنانية مشتركةٍ ويجمعُ بينَ قسمٍ منهُـم إدراكٌ بأن هنالكَ مصالحَ إقتصاديـةً وسياسيـةً مشتركةً لهـا تأثيرٌ موحـد. غيرَ أنه بقيَ لدى الأكثريةِ الساحقةِ من اللُبنانيينَ حسٌّ بالإنتماءِ الى القضايا والدولِ والمحاورِ الأجنَبيةِ ورغبةٌ بمناصرَتِهــا ولو على حسابِ مصلحةِ لبنان، وهذا له تأثيرٌ مفرِّقٌ أقوى من التأثيراتِ الجامعــةِ الموحدة.

ثانياً، كان من المُمكِنِ، لو اعتمد لبنان، حكومةً وشعباً، الحيادَ العربيَ بعدَ الإستقلال، والحيادَ خلالَ الحربِ الباردةِ وفي ما بعدَ الحياد الإقليمي، أن يَتَكوَّنَ لدى أبنائِهِ حسُّ المُواطَنَةِ والإنتِماءِ الوَطَني ومناعَـةٌ ضدَ التأثيراتِ الخارجية؛ غيرَ أنَّ الذينَ سَيطَروا على القرارِ الرسمي تِباعاً لم يَحتَرِموا الحيادَ والنأيَ بالنفسِ، ولم تَتَخَلَّ الطوائِفُ عن تقليدٍ تاريخيٍ بالولاءِ للقوى الأجنبيةِ على حسابِ لبنان. فأكثريةُ المسيحيينَ لم تتخلَّ يومـاً عن وصاية الغرب وطلب حمايَتِهِ ومناصَرَتِهِ سواء في ساحاتِ المعارِكِ أو عِندَ عَقدِ الإتفاقاتِ والمعاهداتِ أو عندَ اتخاذِ القراراتِ الدوليــةِ، وجعلوا الموقفَ الرسميَ للدولةِ عِندَما كانت السُلطةُ بيَدِهِم مؤيداً لأميركا في الحَربِ الباردةِ، ذلك على الرغمِ من أن الغَربَ كان على عداءٍ معَ أكثريةِ القوى العربيةِ والاسلاميةِ، كما أنَّهُم تعاونوا مع إسرائيل خِلالَ حربِ 1975 وما تَبِعَهــا لمجابَهَةِ الخطرِ الفلسطيني على لبنان، ورحَّبَ أكثَرهُـم بالإجتِياحِ الإسرائيلي سنة 1982 أكثَر مما رحّبَت به باقي الطوائف، أما السُنّة فرفضَت أكثريتُهُم الإنفصالَ عن سوريا منذ سنة 1920 وناصَرَتِ القوميةَ والوحدةَ العربيةَ والرئيس عبد الناصر خلالَ ثورة 1958 والقضيَّة الفلسطينيةِ حتى عندمـا كانت تَستَهدِفُ الكيانَ اللبناني، واليوم يناصرُ الشيعةُ المِحوَرَ الإيراني- السوري في صِراعِهِ وحروبه الإقليمية والدوليــة مما حوَّلَ لبنانَ الى مسرحٍ لذلك الصراع.

فإذا طبَّقنا القاعدةَ الإبن خَلدونية القائلة بأن الماضيَ أشبَهُ بالآتي من الماءِ بالماءِ، فأنَّ لبنانَ الذي لَمْ يَعرِفْ الحيادَ خِلالَ تاريخِهِ الحديثِ، حتى عِندما كانَ سيِّدَ نَفسِهِ، فهـو لَن يُمارِسَهُ في المُستقبَلِ، وبالتالي سيَبقى الصِراعُ بين اللبنانيين على الخيارات الخارجية قائماً.

ثالثــاً، لقد أدت التحولات الديموغرافية والجغرافية والسياسية والعسكرية والإقتصادية الى تصعيد الصراعين العالمي والاقليمي مما تسبب، نظراً للخِلافاتِ على الخيارات الخارجية، في تصعيد الصراع الداخلي اللبناني الذي قد يصــل الى صراعٍ مسلحٍ طويلِ الأمدِ سيؤدي في أول الأمر الى انتقـالِ النقطة المركزية للحرب الباردة العالمية الثانية من دمشق الى بيروت والى تحويل أرض لبنان الى ساحة حرب ساخنة مما سيؤدي إما الى دكتاتورية مذهبية أو الى تقسيم لبنان.

رابعــاً، أصبحَ السلمُ الأهليُ ووحدةُ لبنانَ اليوم في خطرٍ داهمٍ لا يَتركُ مجالاً أو وقتاً للتسويات أو لإصلاحِ الِنظامِ أو تَرميمِه.

يستخلص أن اللبنانيين لم يختلفوا أو يتصارعوا أو يتقاتلوا يوماً لأي سبب إلا بنتيجة علاقاتهم مع أطراف غير لبنانية متصارعة في ما بينهـا وأن هنالك إستحالة لوقف الصراع المدمِّر بين اللبنانيين طالما تعددت خياراتهــم الخارجية.

وهكذا أصبح من الضروري إستبدالُ النظامِ السياسي اللبناني برُمَّته واعتمادُ نظامٍ بديل سيكون معقداً، عملاً بقاعدةِ استحالةِ معالجةِ المعضلات المعقدة بحلولٍ مبسطة، على أن تكون غايتـه الآنية وقف تصعيد وتيرة الصراع السياسي عن طريق إزالة سببه ألا وهو الخلاف على تحديد الموقف الرسمي للدولة من الصراعات الإقليمية.

فعلى ضوء مــا تقـدم أقترحُ اعتمادَ نظامٍ فيدرالي غير تقليدي خاصٍ بلبنان وفريدٍ في العالم يتناسَبُ مع مُعطياتِ لبنـانَ السوسيولوجيةِ. فبينما تقومُ الفيدراليات الكلاسيكيةُ بشكلٍ أساسيٍ على الفصلِ الجغرافي وعلى توحيدِ السياسةِ الخارجيةِ والجيشِ، فإن النموذجَ المطلوبَ للبنانَ هو فيدراليةُ كياناتٍ بتقسيمٍ جغرافيٍ مرنٍ قوامُهـا تقويــةُ وتطويرُ اللامركزيةِ الإداريةِ لتُصبِحَ لامركزيةً سياسية - إدارية مرتكزُها الأساسي هو أن تكونَ لكلٍ من الوحداتِ الجغرافيةِ التي تتألَفُ منهـا الدولةُ الفيدراليةُ سياسةٌ ووزارةُ خارجيةٍ خاصةٍ بها.

إن اختيارَ القواعدِ التي ستجسّدُ أُسُـسَ النظامِ المطلوبِ وتحديدَ السلطاتِ التي ستنفَصِلُ بالإضافةِ الى وزارةِ الخارجيةِ كالجيشِ والقوى الأمنيةِ وأجهزتِهمـا تستلزِمُ ابحاثاً ودراساتٍ في القانونِ العامِ لا سيما الدستوري وتحديداً في أُسس الدولةِ الفيدراليةِ وفي القانونِ الخاصِ وفي الجغرافيا والسوسيولوجيا وفي أوضاعِ الأقلياتِ وحقوقِها بغية تحديد الأُسـسِ والآلياتِ التي ستُوَفِّق بين فصلِ تلك السلطاتِ وبين المحافظةِ على وحدةِ لبنانَ شعباً ودولةً وكياناً.

أن الفيدراليةَ المطلوبةَ للبنانَ تهدفُ بشكلٍ أساسيٍ الى إزالةِ سببِ الصراعِ بين أبنائِه، ألا وهو العلاقةُ بالخارجِ، والى المحافظةِ على وحدةِ لبنانَ في إطارِ نظامٍ يؤمِنُ السلمَ الأهلي وتعايُشَ طوائِفِهِ في بلدِ الحضاراتِ والثقافاتِ والهوياتِ الكثيرةِ وفي وطنِ كـلِ الأديان.

إن الخيارِ المتاح هـو بين نموذجِ سويسرا الفيدراليةِ الإتحاديةِ وبَيـنَ نموذجِ قبرص المُقَسَّمةِ ويخطئُ من يراهِنُ على النموذَجِ الدكتاتوري.


MISS 3