فيكتور ديفيس هانسون

الحضارة الأميركية هشّة في جوهرها!

20 آب 2020

المصدر: National Review

02 : 00

متظاهر يحرق علم الولايات المتحدة الأميركية - بورتلاند، أوريغون - 1 آب 2020
منذ تسعة أشهر، كانت نيويورك مدينة عالمية مزدهرة رغم سوء الحكم فيها. كانت تتكل على الأداء المتفاوت لآخر اثنين من رؤساء بلديتها ودورها التقليدي كمعقل عالمي للمال والرساميل. لكن أصبحت هذه المدينة اليوم أشبه بفيلمٍ عن نهاية العالم في زمن ما بعد الحقبة المعاصرة، وكأنها خرجت للتو من انفجار قنبلة نيوترونية. الوضع مشابه في مدن مينيابوليس وبورتلاند وسياتل وسان فرانسيسكو، ولو بدرجات متفاوتة. عند التجول في سان فرانسيسكو اليوم، لا مفر من تذكّر القاهرة القديمة في العام 1973 مع أنها كانت تفتقر إلى أكوام الإبر والبراز التي تنتشر في المدينة الأميركية.

خلال العام 2019، كان الأميركيون المتسامحون يتقبلون بدرجة معيّنة الفكرة القائلة إن تماثيل الأبطال جزء من التاريخ حتى لو كانوا غير مُلهِمين أو محقين بنظر البعض. على سبيل المثال، كانت البعثات التي أسّسها الأب جونيبيرو سيرا جزءاً لا يتجزأ من ثقافة كاليفورنيا التاريخية الغنية وقد سُمّيت الشوارع والتماثيل تيمناً به. لم يكن أي شخص عقلاني ليظن أن إعادة تسمية مركز تسوق باسم "سيرا" في جامعة "ستانفورد" ستسهم في تخفيض معدلات الجرائم في عطلة نهاية الأسبوع في شيكاغو أو تُقلّص الفقر المدقع الذي يعيشه المهاجرون غير الشرعيين في بعض الأحياء.

وفق المعايير الشائعة اليوم، نُسِبت العيوب نفسها إلى روبرت إي. لي، خبير استراتيجي كفوء لكن غير لامع، علماً أنه اعتُبر في زمنه رجلاً صالحاً حارب في سبيل قضية مريعة. كان اسمه يُذكّر الأميركيين بمأساة الحرب الأهلية التي شهدت مقتل 700 ألف أميركي في خضم صراعهم لإنهاء العبودية. يمكن تحقيق مكاسب إضافية على مستوى العلاقات العرقية عبر التركيز على العنف المسلّح داخل المدينة أو مسألة الإجهاض أو دمج المدارس الرسمية مع مخلفات الطبقة البيضاء العليا بدل إسقاط عدد إضافي من الأحصنة البرونزية وفُرسانها. لكن يبدو أن التحركات الأخيرة تحاول تحقيق هذا الهدف تحديداً: التركيز على مخالفات ضئيلة كردة فعل على تجاهل الجريمة الوجودية الأساسية.

لقد أصبحت فكرة المضي قدماً والتعايش مع الماضي جزءاً من التاريخ القديم اليوم. تعمد مجموعة طائشة من الرعاع، بتغطية غير مباشرة من المؤسسات السياسية المرعوبة التي تحاول استرضاءها، إلى تدمير أكبر عدد ممكن من رموز التاريخ الأميركي بطريقة منهجية ومن دون حسيب أو رقيب. ظن الأغبياء في النخبة الحاكمة من المعسكرَين الجمهوري والديموقراطي في البداية أن حملة تحطيم التماثيل كانت انتقائية ومنطقية ومدروسة. لكنها ليست كذلك. لم يكن الهدف يتعلق يوماً بتسليط الضوء على ذنوب أصحاب العبيد القدامى، أو الأوروبي الذي اكتشف الولايات المتحدة، أو كاتب رواية Don Quixote.





ولم تهدف تلك الحملة أيضاً إلى إسقاط الأشرار واستبدالهم بمسؤولين صالحين، بل أرادت تدمير وتشويه معظم الشخصيات التي تمثّل الولايات المتحدة، بدءاً من فريدريك دوغلاس ويوليسيس إس. غرانت وصولاً إلى لينكولن وأبطال الحرب العالمية الثانية من أمثال تشرشل. وفق استراتيجية معسكر اليساريين، يمكن استهداف أعداء اليوم بسهولة إذا تمكنوا من شن الحرب على التماثيل البرونزية والحجرية العائدة إلى شخصيات الماضي من دون مواجهة أي عواقب في ظل تصاعد مظاهر الخوف والرعب بين الناس. كل من يحرق الكتب، بما في ذلك الكتاب المقدس، أو يخرّب النصب التذكارية أو يشوّه المباني الحكومية أو يُسقِط التماثيل ليلاً من دون التعرض للمحاسبة لن يتوانى عن تطبيق هذا النوع من أعمال العنف ضد أشخاص حقيقيين في الزمن الحاضر. تشكّل مدينة بورتلاند خير مثال على ذلك، إذ يحاول أبناء الطبقة الوسطى المدللون هناك إشعال مركز للشرطة كل ليلة لإحراق الضباط المحصّنين في الداخل. وفي شيكاغو أيضاً، يستهدف اللصوص متاجر راقية ويطلقون شعارات عن العدالة الاجتماعية.

في الماضي، كانت محاولة إشعال محكمة فدرالية تستدعي سجن المرتكبين لسنوات وما كان أحد ليفكر باحتلال مساحة واسعة من وسط المدينة. لكنّ الوضع مختلف اليوم. في الوقت الراهن، قد يدخل الناس إلى السجن إذا أعادوا فتح النوادي الرياضية التي تتطلب استعمال الأقنعة وتطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي والتنظيف الدائم بالمُطهّرات. لكن لن تُسجَن الحشود التي تجتمع للقيام بأعمال شغب من دون وضع أي أقنعة وتستخدم بطانات موقّتة ومظلات وخوذات لحماية نفسها. ويستطيع أيٌّ كان أن يصرخ ويرشّ الرذاذ على وجوه الضباط واللصوص ومثيري الشغب الآخرين.

تعكس هذه التطورات مرحلة صعبة تشبه بأحداثها "حركة اليعاقبة" الثورية، لكننا لا نعرف بعد كامل نطاق الثورة المضادة التي تستطيع إضعاف أعمال العنف في الشوارع وزيادة الأعباء على كل طرف ساهم في تقويتها. لا مفر من اندلاع ثورة مضادة لأن الولايات المتحدة لن تصمد من دون ثورة مماثلة. من المعروف أن 250 مليون شخص تقريباً يحبون الولايات المتحدة بالوضع الذي كانت عليه قبل 1 آذار وهم لن يتخلوا عنها بسهولة مهما زادت المصاعب المطروحة. في النهاية، لا تنتمي واشنطن ورمزية لينكولن إلى عصابة يسارية مختلّة وحاقدة على الولايات المتحدة لمجرّد أنها غاضبة من نفسها. يعارض الشعب معظم التكتيكات المستوحاة من "حركة اليعاقبة"، بدءاً من وقف تمويل الشرطة وصولاً إلى الاعتداءات العنيفة على أملاك الدولة. هم لا يعتذرون عن ماضيهم ولا حاضرهم.

ما هي تداعيات الثورة المضادة في المجالات التي تتجاوز حدود السياسـة؟ قد يدرك المعنيون في الدوري الأميركي للمحترفين في كرة السلة واتحاد كرة القدم الأميركي حقيقة الوضع قريباً. إما أن يتابعوا حركة الركوع خلال النشيد الوطني وإطلاق الشعارات اليسارية والعبارات البطولية الوهمية وتوجيه أصابعهم إلى الجمهور، فتخسر هذه الحركات أهميتها فيما يرفض الأميركيون تقبّل الإهانات لشخصهم أو لبلدهم، وإما أن يعودوا بهدوء إلى حقبة ما قبل اللاعب المثير للجدل كولين كايبرنيك (كما كان اتحاد كرة القدم الأميركي في العام 2019 مثلاً)، حين كانت السياسة تُعتبر عاملاً مسيئاً للرياضة التي تهدف إلى جني الأرباح.

إذا أردنا استخلاص دروس قيّمة من فيروس كورونا وفترة الإقفال التام والركود الاقتصادي وانتشار العنف في الشوارع، يمكن القول إن الأميركيين لا يحتاجون إلى موقف سخيف آخر من ليبرون جيمس لصالح الصين، أو إشادة أخرى بـ"شجاعة" كايبرنيك، أو استعداد لاعب آخر للاعتذار من تكريمه الخاطئ للعلم الأميركي وكأنه يأتي مباشرةً من أحد معسكرات إعادة التأهيل في كوريا الشمالية.

أخبرتنا الجامعات بأنها قد تفرض 80 ألف دولار سنوياً مقابل "تجربة الحرم الجامعي"، وأن تراكم الديون كي تصل إلى 200 ألف دولار مقابل الإجازة الجامعية استثمار ذكي، وأن هذا النوع من المفكرين والتقدميين في الجامعات يجب ألا يعير أي اهتمام لوثيقة الحقوق. لكن كانت هذه السخافات كلها ترتكز على الفكرة القائلة إن العلامات التجارية التي تتعامل معها تستحق الكلفة التي تفرضها عليها وأن التجربة الجامعية تبقى قيّمة وفريدة من نوعها.

في مرحلة معينة، قد يرغب الرأي العام في أن تُحوّل الحكومة الفيدرالية الأعمال التجارية التي تؤمّن قروض الطلاب إلى الجامعات، فتعمد هذه الأخيرة إلى تخفيض التكاليف في المرحلة اللاحقة. ستتضح عواقب المِنَح التي تتلقاها هذه المؤسسات المُسيّسة والمشوهة قريباً، وسـتتخلى الولايات المتحدة عـــن الربط بين الإجازة الجامعية وقيمة المعـــــارف والتفكير الاستقرائي والتعلّم خلال القرن الواحد والعشرين. في النهاية، قــام أحدهم بـ"تثقيـف" هؤلاء المراهقين المحظوظين والمنتشريــــــــن في الشوارع ليلاً، ومناصري البيئة الذين يتركون النفايات والأنقاض وراءهم، والناشطين الذين يصرخون في وجه رجال الشرطة السود ويعتبرون أنفسهم العقل الفوضوي المدبّر وراء حركة "حياة السود مهمة"، والمتحمسين الذين يحاولون افتعال الحرائق ومهاجمة كبار السن وتدمير كل ما لا يستطيعون ابتكاره بأنفسهم.

تكشف استطلاعات الرأي أن الأميركيين في معظمهم باتوا مقتنعين الآن بأن وسائل الإعلام منحازة بشكلٍ ميؤوس منه. بدأت قناة "إن بي سي" وشبكات ومنشورات أخرى تُسرّح موظفيها. وبدأت ساحات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي التي لا تخضع لأي قواعد تصبح بديلة عن الصحف ونشرات الأخبار المتلفزة كمصادر للمعلومات العامة. لا يعني ذلك أنها أكثر دقة أو أقل انحيازاً، بل يستطيع المستهلكون بكل بساطة أن يطّلعوا على أخبارها المنحازة وغير الدقيقة بأسعار أقل بكثير. كذلك، يتفاخر الصحافيون بأنهم ما عادوا يحتاجون إلى النزاهة بمعناها التقليدي في عصر ترامب. ما الداعي إذاً لدفع 200 ألف دولار إلى مراسل مشهور إذا كانت القنوات تستطيع الاستعانة بوكلاء دعائيين لكتابة المعلومات نفسها على الإنترنت مقابل عِشر السعر الأصلي؟ من الواضح أن جيل الستينات يتصرّف بالطريقة التي اعتاد عليها، فيختار أسلوباً فظاً وصاخباً وجباناً ويعمد إلى تدمير المؤسسات التي استغلها بكل أنانية لمصلحته الخاصة يوماً. إذا أردنا أن نعرف ما يجعل قشرة الحضارة الأميركية رقيقة جداً (لقد خُدِشت بسهولة خلال هذه السنة وكشفت عن همجية كامنة)، يكفي أن ننظر إلى جيلٍ من المهندسين في الجامعات ووسائل الإعلام وعالم الرياضة والسياسة والمؤسسات: كان هؤلاء يحضّرون أسلحتهم الثقافية منذ وقتٍ طويل وهم يترنحون الآن لأنهم نجحوا في استعمالها أخيراً، لكنهم يشعرون في الوقت نفسه بالرعب لأن صدى تفجيراتهم يقترب منهم يوماً بعد يوم.


MISS 3