نبيل منوال يونس

فشَل النظام

20 آب 2020

02 : 00

شعَرَ ابناءُ جبلِ لبنان منذُ القرنِ التاسع عشر بصعوبةِ العيش المشترك الملازمة للمجتمعات المتعددة طائفياً والمعقدةِ التركيب، وشعر اللبنانيونَ عندما نالوا الإستقلال بعدم كفايةِ الدستور الذي فرضته الدولة المنتدبة سنة 1926 الممسوخ عن دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة، ليكونَ اطاراً سليماً لتعايشِ طوائفهم.

فمنذُ ولادة الدستورِ بدأَت تظهَر عدَم ملاءَمَة لحاجات التَعايُش وبدأت سلسلة من الترميمات بلغت ثمانية تعديلات بين تاريخ ولادتِــه سنة 1926 وآخر تعديل سنة 1990 والتي تناولت 64 مادة والغاء 8 مواد من أصل 102 مادة. كان اسوأ تعديلين الأول سنة 1927 والأخير سنة 1990 وقد الغى الأول مجلس الشيوخ على الرغم من حاجة لبنان إليه وعلى الرغم من أنه اذا كان يوجد بلد في العالمِ يحتاج الى مثله فهو لبنان، والأخير الناتجِ عن "وثيقة الطائف" التي سميت "اتفاق الطائف" على الرغم من انتفاء أي اتفاق فيه بينَ اللبنانين اذ اقتصرَ "الاتفاق" الذي سمّي ايضاً "وثيقة الوفاق الوطني" على صفقةٍ عُقِدَت بين أميركا وسوريا واقتصَرَ دور اللبنانيين فيها على اعتمادها بالشكل وتشريعِها دستورياً. لقد ادّى هذا التعديل الدستوري الى تأسيسِ نظامٍ متعدِدِ الرؤوس ومتشابك الصلاحيات بنتيجة توزيع اكثرية صلاحيات رئيس الجمهورية، التي كانت قد اصبحت زائدة ومبالغاً بها، على الرؤساء الثلاثة، فنشب الصراع بينهم وامتد الى طوائفهم، أو بنتيجــة تحويل تلك الصلاحيات الى مجلسِ الوزراء، فبدأ الصراع للهيمَنَةِ عليه وتقاسمــه فتعطّلت السلطة الإجرائية وأصبح النظامُ بحاجةٍ دائمةٍ الى سوريا لتلعب دور المُحَكّم، وهكذا قضت التعديلات الدستورية المنبثقة من وثيقة الطائف على كل إمكانية لترميم النظام.

وعلى الرغم من ذلك تبجح مشترعو الطائف، في أول الأمر، بإنجازهم ومن ثم ارتدوا عن الطائف وعليه عندما بدأت تظهر عيوب تلك التعديلات، واليوم وتحت تأثير التهديد بالأعظم يقبل الرأي العام تلك التعديلات حتى أصبح معارضوها خونة.

ولد الميثاقُ الوطني سنة 1943 بنتيجةِ شعور القادة بعدم تضمّن الدستور القواعـد الكافية لتعايش اللبنانين في اطار التناقضات الوطنية والطائفية المتجسدة بشكل اساسي في قضيتين اولاهما ارتباط لبنان بمحيطه العربي الاسلامي من جهة وبقوى الغرب منذُ عهد المحميات الطائفية من جهة ثانية وثانيتهـمـا توزيع السلطات وتقاسمها.

غير ان الميثاق الذي جاء بصيغةٍ مقتضبةٍ، ولما تضَمَّنَه من عموميات ولكون نصفه جاءَ بصيغةِ تنازلاتٍ سلبيةٍ تَجَسَّدَت بامتناعِ المسيحيينَ عن طلبِ حمايةِ الغربِ لقاءَ امتناعِ المسلمينَ عن السعي الى الانضمامِ الى سوريا بينما اقتصَرَ نصفُهُ الآخر على توزيعِ الرئاساتِ على الطوائف، ظلَّ الميثاق مقصراً عن تغطيةِ نواقص الدستورِ فحاول البعضُ شرحَــهُ وإكمالَــهُ وهكذا تعاقبت على منبر "الندوة اللبنانية" المحاضرات حول الميثاق.

إنتكَسَ الميثاقُ لأولِ مرةٍ سنة 1958 وتعاقبَت بعدَ ذلك الأزمـاتُ والإنتكـاساتُ للدستورِ وللميثاقِ معاً ومما دفع اللبنانيين فـي كلِ مرةٍ، بغيــة التوصلِ الى تسويــتِهــا الى اعتماد آليـات بديلــةٍ للدستــورِ Mécanismes alternatifs، في إطارِ تدويـلِ الأزمـات، كما اقتُرِحَت مجموعةٌ من الطروحاتِ والنظرياتِ والتفسيراتِ الأكاديميــة الترميمية للنظامِ.

نتَجَت عن سلسلةِ الآلياتِ البديلةِ قراراتٌ بقي أكثرُهـا بدون تطبيق، واقتراحاتٌ لم تُعتمَـد كان اهمُّها "الوثيقة الدستورية" سنة 1967 وطاولات الحوار منها مؤتمرُ الحوارٍ في جنيف سنة 1983 ومؤتمرُ لوزان سنة 1984 و"الاتفاق الثلاثي" سنة 1985 واجتماع لاسيل سان كلو سنة 2007 برعايةِ وزيرِ الخارجيَةِ الفرنسي و"اتفاق الدوحـة" سنة 2008 و"إعلان بعبدا" سنة 2012.

اما على الصعيدِ الاكاديمي الدستوري فقد اقتُرِحَت "الديموقراطية التوافقية" التي ظنَّ بعضهم أنها قائمةٌ على فكرةِ التسوياتِ في حينِ أنها تَرمي الى اعطاءِ النظامِ استقراراً ناتجاً عن وضعِ ضوابط للتعديلاتِ التي قد تطاولُهُ، واقتُرِح مشروعُ "المجلس الرئاسي" الذي تتمثلُ فيه كلُّ طائفةٍ بعضوٍ واحدٍ على أن يكونَ رئيسُهُ متقدماً بينَ متساوين وأن تكونَ رئاستُهُ مداورةً بين اعضائهِ وطالبَ بعضهم بإنشاءِ مجلسِ الشيوخِ الذي استأخَرَ إنشاءَه مشترعو الطائف، بعضُهُم عن سوءِ نيةٍ وبعضُهُم عن جهلٍ، ذلك على الرغمِ من حاجةِ لبنان الماسةِ اليه، كما اقتَرَحَ بعضهم حلولاً تبسيطية مثل الغاءِ الطائفيةِ السياسيةِ والإنصهارِ الوطني ألخ..... ألخ....

لقد ظلَّ النظامُ منذُ الاستقلالِ تحتَ تأثيرِ معيارَي ديموقراطيةِ العَدَديةِ المُطلقةِ من جهةٍ والحاجةِ الى حمايةِ حقوقِ الاقلياتِ من جهةٍ أُخرى، وتكيَّفَت الحياةُ السياسيةُ بمحاولاتِ التوفيقِ بين المعيارين وكان منهــا بدعــةُ تأليفِ حكومـاتٍ أطلقَت عليهـا تسميةُ "حكومـات الاتحاد الوطني" على الرغمِ من إنتفاءِ أيِّ قاسمٍ مشتركٍ بين أعضائِهـا أو بينَ القِوى التي تتألَّفُ منها، فبَقيَت السلطةُ الإجرائيةُ بظلِ هذا النظام مفككةً وعاجزة.

وزادَ في الأمرِ تعقيداً ان الخطَ الفاصلَ بين منطقةِ النفوذِ الأميركي ومنطقةِ النفوذِ الروسي، خلالَ الحربِ الباردةِ إستقرَّ على الحدودِ اللبنانيةِ السوريةِ بنتيجة مناصرةِ لبنانَ لأميركا في حينِ كانَت بعض الدولِ العربيةِ، ومنها سوريا، مناصرةً لروسيا. إن موقعَ لبنان في قلبِ الشرقِ الأوسط جعلَهُ ممراً ومسرحاً للصراعات الاقليمية، فالشرقُ الأوسطُ لم يعرف السلامَ منذُ أكثَرَ من ألفِ سنةٍ لكونِهِ منطقةً متنوّعة عرقياً، ودينياً، ومذهبياً، وثقافياً، وحضارياً، ووطنياً ويتزامَنُ فيها شحُّ المياهِ معَ كثرة الثَرَواتِ البتروليَّة والمعدنية وتَنتَشِرُ فيها كثرةٌ من الرُموزِ، لا سيما الدينيةِ لكَونِها مكانَ ولادَةِ الدياناتِ التَوحيديةِ. والأهَم، أن أكثريةَ بلدان الشرق الأوسط لها أهدافٌ توسعيةٌ تَحتاجُهــا كذرائع لتَبريرِ الإجراءاتِ التي تلجأ اليها لتثبيت انظمتها الديكتاتورية، وكان لبنان مراراَ أحد تلكَ الأهداف.

لقد أدّى تفاعلُ المطامع الإقليمية لبعض بلدان الشرق الأوسط بلبنان، مع طبيعة علاقة اللبنانيين، حكومةً وشعباً، بتلك البلدان الى زيادة صعوبةِ التعايشِ لأن تجانسَ فئاتِ الشعبِ اللبناني وتفاعله مع دولِ المحيطِ العربي والفارسي والعثماني، دينياً ومذهبياً وثقافياً إستتبَعَ مناصرةَ اكثريةِ اللبنانيين الساحقَةِ لتلكَ الدولِ بصراعاتها الإقليمية، واستتبع مناصرة تلك الدول لحلفائها اللبنانيين بحيث اصبح لبنان مرآةً للصراعات الإقليمية ومسرحاً لها.

فشلَ النظامُ بكلِ مكَوِّناتهِ، من دستورٍ وميثاقٍ وصيغةٍ، بتأمين إطارٍ سليمٍ لتعايُشِ اللبنانيينَ على اختِلافِ طوائفهِـم وعَصبياتِهِم المَذهَبيةِ والمناطِقيَّــةِ والعائليةِ والعشائريةِ، وفشِلَ النظامُ ببعثِ حسِّ المواطَنةِ الذي كان من شأنِهِ أن يجعلَ للإنتماءِ الى لبنان أولوية على الإنتماءِ الى الغربِ أو الى المحاورِ الاقليميةِ وفشِلَ النظامُ بحلِّ الأزمات بحيث انتهَت كلُّهـا الى تسوياتٍ هشة من دون حلول.

إزاءَ فشلِ النظامِ يقتضي تحديد إحتمالاتِ نتائجَ الفشلِ ويقتضي أن يصارحَ اللبنانيون بعضَهمُ بوجوبِ إستبدال النظامِ والصيغةِ ببديلٍ لهما يلائِمُ معطياتِ حياتِنا السياسيةِ وتحديداً التعدديةَ وعلاقةَ الدولةِ واللبنانيينَ بالجوارِ إذ أن الديموقراطيةَ والسلامَ الأهلي ووحدةَ لبنان مهددة.