علينا جميعاً مساندة الدولة... عودة: أطماع المسْؤولين والحكّام أضْعفتْ مناعة لبنان

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.


بعد الإنجيل المقدس ألقى عظة "المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور".


وقال فيها: "أحبّائي، يدْعى الأحد الثّالث بعْد القيامة “أحد المخلّع”، وفيه نقْرأ النّصّ الإنجيليّ الّذي يخبرنا عنْ شفاء مخلّعٍ كان ينْتظر أنْ يبْرأ في برْكة “بيْت حسْدا”، كلمة “حسْدا” العبْرية تعْني “الرّحْمة”، وقدْ سمّيتْ البركة بهذا الإسْم لأنّ اليهود كانوا يعْتقدون بأنّها مقدّسةٌ بسبب ارْتباطها المكانيّ بالهيْكل، إذْ تقع عنْد باب الغنم، أي الباب الّذي كانوا يدْخلون منْه أضاحي التّقْدمة. يخْبرنا الإنْجيليّ يوحنّا أنّ البرْكة كانتْ عجائبيّةً، وكان ملاكٌ يحرّك مياهها فيشْفى أوّل النّازلين فيها".


وتابع: "في الأحْداث الّتي يرْويها الإنْجيليّ يوحنّا نلاحظ غياب الأسْماء. نحن لا نعْرف اسْم المخلّع، بلْ فقطْ أنّه يقْبع قرْب البرْكة منْذ سنواتٍ. يعْرف كلّ منْ في أورشليم هذا الرّجل جيّدًا، لكنّ الإنْجيليّ لا يذْكر اسْمه. الأمْر ذاته يحْدث في حوار الرب مع السّامريّة الّتي لمْ يذْكرْ اسْمها، مع أنّها كانتْ معْروفةً في مجْتمعها، بحسب النّصّ (يو 4). كذلك الأمْر بالنّسبة إلى أعْمى برْكة سلْوام (يو 9) وغيْرهم. يعود السّبب الأساسيّ في غياب الأسْماء إلى رغْبة الإنْجيليّ يوحنّا في إشْراك سامع البشْرى في الحدث، وكأنّ القارئ يصير المخلّع أو السّامريّة أو الأعْمى... عاش المخلّع ثمانٍ وثلاثين سنةً قرْب البرْكة لا يطْلب سوى أنْ “يرْحمه” أحد النّاس ويساعده على النّزول في الماء ليشْفى. كان يؤْمن بأنّ “الرّحْمة الإلهيّة” على حسب اسْم البرْكة، حاضرةٌ، ويرْجو أنْ تعْكسها رحْمة البشر. إيمان المخلّع درْسٌ في الصّبْر وقوّة الإيمان. منْ يسْتطيع احْتمال الرّقاد في السّرير أسْبوعًا واحدًا؟ هذا الرّجل احْتمل كلّ تلْك السّنين منْتظرًا الشفاء. أسْلم ذاته للرّحْمة الإلهيّة، ولمْ يسْتسْلمْ، بلْ حافظ على رجائه في الشّفاء".


وأردف: "عنْدما الْتقى الرب يسوع بالمخلّع سأله: “أتريد أنْ تبْرأ”. قدْ يبْدو السّؤال مسْتغْربًا، إذْ ماذا يريد مريضٌ أكْثر من الشّفاء؟ لمْ يسْتهْزئْ المخلّع بالسؤال ولمْ ينْزعجْ، بلْ أجاب: “يا سيّد، ليْس لي إنْسانٌ يلْقيني في البرْكة متى تحرّك الماء”. ينْتظر القارئ جوابًا مثْل: “أريد أنْ أشْفى”، لكنّ مشْكلة المخلّع لمْ تكنْ في إمْكانيّة شفائه، بلْ في وجود منْ يساعده. لمْ يطْلب الشّفاء، بلْ أنْ يحبّه إنْسانٌ، وما أكْثر المحْرومين من المحبة. طبْعًا، يشاء المخلّع أنْ يشْفى جسديًّا، لكنّنا نفْهم منْ جوابه أنّ حرْمانه المحبّة في حياته كان أصْعب منْ مرضه، قبْل شفاء أحدٍ كان الرّبّ يسوع يسْأله عنْ إيمانه بقدْرته الشّفائيّة، لذلك يرْتبط الشّفاء بالإيمان. عنْدما شفى الرّبّ الأعْمييْن بعْد إقامته إبْنة رئيس المجْمع سألهما: “أتؤْمنان بأنّي أقْدر أنْ أفْعل هذا؟” (مت 9: 28)، وعنْدما شفى الصّبيّ بعْد حادثة التّجلّي قال لأبيه: “إنْ كنْت تسْتطيع أنْ تؤْمن، فكلّ شيْءٍ مسْتطاعٌ للمؤْمن” (مر 9: 23). هنا، لمْ يسْأل الرب عنْ إيمان المخلّع، لأنّ مدّة احْتماله منْ دون يأْسٍ أظْهرتْ قوة إيمانه. لقدْ عبر عنْ إيمانه بصبْره ورجائه".


واستطرد: "لمْ يحاور الرّبّ المخلّع، ولمْ يبشّرْه أو يعرّفْه عنْ نفْسه، بلْ قال له: “قمْ، إحْملْ سريرك وامْش”. وبما أنّ المخلّع يمثّل كلًّا منّا، فنحْن مثْله، كثيرًا ما نطْلب حلولًا بعيدةً عنْ واقعنا. إنْتظر المخلّع أنْ يساعده أحدٌ لينْزل إلى الماء، لكنّ حلّ مشْكلته كان بقدوم الرّبّ شخْصيًّا إليْه ليشْفيه بكلمته. هذا ما نقع فيه دائمًا، إذْ تبْدو مشاكلنا كبيرةً، فنعْتقد أنّ حلّها محْدودٌ بطريقةٍ واحدةٍ، لكنّ لله طرقه الخاصّة، وأحْكامه تفوق كلّ عقْلٍ. جلّ ما يطْلبه منّا الرّبّ، منْ أجْل حلّ مشاكلنا، أنْ نحْتملها وألا نفْقد الرّجاء، وهو شخْصيًّا سيأْتي إليْنا عنْدما نعبّر عنْ إيماننا بالصّبْر والرّجاء، فيشْفينا منْها، يا أحبّة، بلدنا أيضاً مخلّعٌ، يرْزح تحْت ثقْل المشاكل السياسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة والأخلاقيّة والأمْنيّة، واللائحة تطول. حربٌ واغتيالاتٌ وتهريب أسلحةٍ وتفلّتٌ أمْنيٌّ ووعيدٌ بصيفٍ ساخن، وجرائم ومخدّراتٌ وغيرها من الآفات، لكنّ تفْريغ المؤسسات وتعطيل انتخاب رئيسٍ وتبادل الإتهامات تثْقل كاهل اللبنانيين وتنغّص عليهم عيْشهم المنغّص أصْلاً بأعْباء الحياة".


أضاف: "أطماع المسْؤولين والحكّام والزعماء، وأطماع الغرباء، أضْعفتْ مناعة لبنان، وتلك الواحة التي كانت قبْلة الأنْظار أصبحتْ غابةً لا شريعة فيها ولا قانون، إذ فات زعماءها والحكّام تحْصينها ضد الحسد والحقْد والطمع والإنقسام، وضد التدخّلات والإنسلالات الغريبة التي أساءتْ إلى وحْدة البلد حتى أصبحتْ الخيْبة تأكل شعْبه، والإنقسامات تشلّه، وعدم وجود رأسٍ يفْقده الدوْر والهيْبة والسيطرة على أوضاعه، سوء التدبير والتقدير، وتغْليب مصالح الخارج على مصْلحة الداخل، وعدم التزام الدستور، وعدم انتخاب رئيسٍ يمْسك بزمام الأمور زادتْ هشاشة الوضع. لذلك نكرّر أنّ على اللبنانيين التعالي على المصالح والأحقاد، والإلتقاء على ضرورة إنقاذ بلدهم بدءاً بانتخاب رئيسٍ، ثم تشكيل حكومةٍ تجري التعْيينات اللازمة في الإدارة، والإصْلاحات الضرورية في كافة الميادين، وتتشدد في تطبيق القوانين على الجميع، دون استثْناء".



وسأل: "هنا لا بدّ من التعبير عن أسفنا العميق من الحمْلة التي واجهتْ الإجراءات الأمنية التي اتخذتْها وزارة الداخليّة لقمْع المخالفات والحدّ من الفوضى التي تغْزو الشوارع. هل أصبح تطْبيق القانون جريمةً تستدْعي المواجهة؟ أليس تخطّي القوانين وتجاهل الدستور السبب الرئيس لما وصلْنا إليه؟ عندما لا تقوم الحكومة بعملها تنْتقد، وعندما تستيقظ على واجباتها تواجه. هل تبْنى الدولة على أنْقاض القانون؟ وهل ترسم الفوضى الصورة المشْرقة التي نطْمح إليها جميعاً، صورة لبنان الحضاري، المتطور، المنْضبط، حيث الجميع متساوون وتحْت سلْطة القانون؟".


وختم: "علينا جميعاً مساندة الدولة في كلّ عملٍ إصلاحيٍّ تقوم به، ومحاسبتها على كلّ تقْصيرٍ وتقاعس. إنحسار الدولة لمصْلحة الخارجين على القانون والرافضين تطْبيقه والعائثين فساداً يضْعف الدولة ويؤذي المواطنين. واجبنا تحصينها ومساعدتها على فرْض هيْبتها وتطبيق قوانينها وحماية حدودها وأمننا وأمْن أطفالنا والمراهقين منْ كلّ أذى، يا أحبّة، يقْرأ إنْجيل المخلّع بعْد القيامة، لتذْكيرنا بأنّنا تجدّدْنا بقيامة الرّبّ، كما تجدّد جسد المخلّع الّذي تآكل عضله جرّاء رقاده لثمانٍ وثلاثين سنةً. لذا، نحن مدعوون اليوم أنْ ننْهض، بقيامة المسيح، منْ شلل نفوسنا وتقهْقر بلدنا، عبْر الصّبْر والتّحلّي بالرّجاء، فنقوم مع المسيح ونصْرخ: “المسيح قام!".