قبل مئة عام كانت ولادته قيصرية. أرادَه الأوائل منارة مضيئة عدالةً وحريّةً ومساواة في هذا الشرق. نجح إلى حدٍّ كبير في تحقيق هذا الحلم أو بعضه، عندما كانت الدولة وحدها هي المسؤولة عن إدارة شؤون مواطنيه. حافظ على حدوده الدوليَّة من إقتطاعِ جزءٍ منها، أو التعديات عليها باستثناء تعديات الشقيق؛ وأصبح منبراً حرَّاً ومنارةً ومقصداً لكلِ طالبِ علمٍ ومعرفةٍ وحريَّةٍ في عالمه العربي الأوسع. لكن نجاحه وتميُّزهُ، أثارا حَسَدَ بعض أشقائه؛ فانقضّوا عليه، وحوَّلوه إلى ساحةٍ متفجرةٍ للإرتزاق، وجاهزةٍ للبيع في خدمة كلِّ فاشلٍ ومرتزق، للإتجار بهويته وحريته.
اليوم سقطت الدولة في «لبنان الكبير». ماذا تبقّى منها، بعد أن قُطِعَ رأسُها، وهذه المرة قد يكون إلى الأبد؟ وتحوَّل مجلسها التشريعي إلى ساحةٍ للمباريات النظرية والعملية في تعطيل الدولة، وحكومتها إلى شاهدِ زورٍ على كلِّ ما يحصل من انهيارٍ للدولةِ في الداخل، وخوض أحدِ مكوناتها، وعلى حسابه الخاص، حرباً مفتوحة مع العدو لحساب الغرباء، مكتفيةً بالمراقبة والتنصُّل من المسؤولية لتبرير عجزها.
دولةٌ بلا حدود ولا مؤسسات ولا مصارف؛ قضاؤها عبارةٌ عن مبانٍ متهالكة تفتقرُ إلى الروح، وأمانها رهنٌ بيدِ فريقٍ مسلح، لا يؤمن بنهائيتها، بينما يمسكُ بسلمها الأهلي وحروبها المفتوحة لحساب الغرباء في الإقليم. دولةٌ نهبت أموال مواطنيها في المصارف، ولا تزال تؤمّن لزبانيتها الإستمرار في الإستيلاء يوميّاً، عبر السوق السوداء، على «فلس الأرملة» المتبقّي في جيوب المواطنين، باحتكارِ الطابع البريدي مثلاً، أو تنفيذ المعاملات، القانونية وغير القانونية، بشبكات التسلُّطِ على المال العام وسرقته بحماية «شرعية»... إنه الإفلاس العام، إنه الإنهيار الكبير.
لا تشي تصرفات النواب خاصةً الذين يدَّعون المعارضة، بأنهم ذاهبون إلى معالجة هذا الوضع الخطير، بسبب جهل البعض وبسبب المصالح الخاصة للبعض الآخر. ويبدو أن لا أمل للبنانيين بالإنقاذ أو المواجهة في هكذا حكومة، صنيعة هذا الحكم الحاليّ الفاسد، والتي تتسلَّح بالإستقالة لتستسلمَ للسلاح، وتغطي كلَّ موبقات الحكم في الداخل وعلى الحدود العدوة والشقيقة. وبينما الشعب بات عاجزاً عن تحمُّلِ غياب دولةٍ مركزيةٍ ترعى شؤونه، نراه يتحوّلُ إلى شعوبٍ تواقة إلى اجتراح إداراتٍ ذاتيّة موقتة ترعى شؤونها اليومية، بانتظار فرجِ الإفراج عن مصادرة الدولة المركزية، هذا إن حصل هذا الإفراجُ قبل فوات الأوان. لم يعد بمقدور المواطنين العيش ككومات من الشعوب المنهوبة والمسلوبة الإرادة؛ إنه خطابٌ يوميّ، يترددُ ويتفاعلُ لدى الكثيرين. فهل مات «لبنان الكبير»، لاستيلادِ لبنانات أخرى؟ ومن المسؤول عن هذه «البيعة»؟
بين ثقافة الموت وثقافة الحياة، كثيرون من اللبنانيين يختارون ثقافة الحياة؛ وبين العيش المشترك القامع والحرية، هم يختارون أيضاً الحريّة. غداً ستنتهي الحرب في غزة ومعها الحرب في لبنان؛ ويصبح لزاماً علينا كلبنانيين، بعد ما تسببته هذه الحرب وما سبقها من ويلات وإفلاس على لبنان واللبنانيين، وما قد يحاول البعض استثماره زوراً في الموت والدمار كما سبق وحصل سابقاً، أن نطرح جميعاً خيارنا النهائي، إستقلاليين وممانعين، بين العيش معاً متساوين أو الإفتراق. إنها مسؤولية كبرى على عاتق الجميع لتفادي الأخطر.
(*) نائب سابق في تكتل «الجمهورية القوية»