حلول الأزمات المصرفية معروفة، وتنقسم بعنوانها الكبير بين عمليتي إعادة هيكلة المصرف المتعثر أو خروجه من القطاع المصرفي وذلك بحسب إحدى ورقات عمل ملف مشروع الإعداد لاتفاقية اتحاد مصرفي أوروبي يدار بأنظمة وقواعد موحدة إستكمالاً لمشروع الإتحاد النقدي القائم بين هذه الدول.
العملية الأولى
عملية إعادة هيكلة المصرف المتعثر، يمكنها ان تتمثل، ومن دون التزام بالتراتبية، (1) بإعادة تكوين الاموال الخاصة اما بعملية إنقاذ خارجي تأخذ صورة المساهمة في رأس المال وإما بمبادرة داخلية تمتص الخسارة بتحويل الدين إلى رأس مال أو بتخفيض قيمته او حتى شطبه، (2) بنقل ملكية المصرف بالكامل الى مساهمين جدد او الى الحكومة بالتأميم، (3) بعزل ادارة المصرف ووضع الأخير تحت الإدارة الموقتة، (4) بتقسيم المصرف الى قسمين: الاول ويسمى بالمصرف السيئ bad bank والثاني يسمى بالمصرف الجيد good bank حيث يستبقى المساهمون واصحاب السندات غير المضمونة كما اصحاب الودائع غير المضمونة اي التي تزيد عن السقف المحدد لضمان كل وديعة في المصرف السيئ. وينقل المودعون اصحاب الودائع المضمونة اي التي تقع ضمن السقف المحدد لضمان كل وديعة كما اصحاب السندات المضمونة إلى المصرف الجيد.
لم يتم التقيد بالقواعد الآنفة الذكر من قبل مصرف لبنان فقد قام الاخير وبشكل مخالف للقانون بتعاميم اصدرها تحت رقم 150 و154 و165 بانشاء منطقة مصرفية حرة اي مصرف جيد اعيد اليه قسم يسير من اموال كبار المساهمين ومدراء المصارف والنافذين التي كان هؤلاء قد حولوها للخارج خلافاً للقانون بعد اندلاع الازمة وكانت الاصول تقضي بان تبقى جميع اموالهم لدى القسم السيئ من المصرف دون السماح بتحويلها ابداً الى الخارج.
العملية الثانية
بالنسبة للعملية الثانية اي خروج المصرف من النظام المصرفي يمكن ان تأخذ آليتها واحدة من الصورتين التاليتين: اما تحوله الى نشاط آخر كمؤسسة تسليف او وساطة مالية وغيرهما....او تصفيته وحله بالكامل.
وتؤدي الحالة الثانية الى بيع اصول المصرف وتعويض المودعين منها ومن قبل هيئة او صندوق لضمان الودائع ثم الدائنين من الافضلية والأولوية القصوى إلى الأفضلية الأقل والمساهمين في النهاية. وفي معظم الأحيان لا تكون الاصول كافية فيصار كما هو الامر في لبنان الى وضع اليد على عقارات واموال المسؤولين عن الادارة والمراقبة في المصرف لتعويض المودعين.
فالمودعون هم عادة الأفضل حالاً بعد الدائنين المضمونين في حين أن المساهمين والدائنين غير المضمونين هم الأسوأ حالاً. وبالنسبة لكبار الدائنين، فإن وضعهم أفضل من وضع المساهمين، ولكنه أقل جودة من وضع المودعين الذين تقل ودائعهم عن سقف التعويض المضمون ومع هذا تعطي عدد من البلدان الاوروبية اولوية للمودعين غير المضمونين على كبار الدائنين.
في لبنان اغفل واضعو مشاريع قوانين اعادة هيكلة القطاع المصرفي واقع ضرورة حسن ربط الامور في هذه المشاريع بواقع الازمة النقدية للحفاظ على الحقوق حيث ان غالبية الودائع بالعملة الاجنبية، بالدولار بالتحديد، وهناك تراجع بحجم الواردات من هذه العملة لاسباب عديدة ومعروفة.
تجربة من ألمانيا
في هذا المضمار من المفيد استعادة سياسة عالم الماني مجلٍّ في امور النقد هو البروفسور Schacht الذي حقق نجاحات مذهلة لم يعرف التاريخ مثيلاً لها من قبله ولكن تم طمس مآثرها كونها تعود الى الحقبة النازية، اذ نجح بخلال خمس سنوات فقط (اي ما يوازي تقريباً عمر الازمة اللبنانية) في تحويل بلاده من دولة مفلسة غارقة في كساد عميق، مدخراتها متآكلة واحتياطياتها من النقد الاجنبي كما مخزونها من الذهب يقربان من الصفر بسبب العقوبات التي فرضتها عليها معاهدة فرساي بعد الحرب الكونية الاولى إلى أقوى اقتصاد اوروبي. وقد اسس Schacht برنامجه النقدي غير التقليدي، في البداية على الـ rentenmark (Mark-rente) الذي اوقف التضخم المفرط بتوثيقه بضمانة جزء من رأس المال الحقيقي للشركات ما دعا الاقتصادي الانكليزي الشهير Keynes الى وصف النتائج الباهرة المحققة بالمعجزة، ولاحقاً اطلق Schacht ما عرف بسندات الـ MEFO التي ربط اصدارها من قبل هيئة مالية مستقلة بالناتج من السلع والصناعات وتم طرحها للتداول في الاسواق لشراء الاخيرة وبهدف دفع مستحقات المقاولين والموردين منها كما الزمت المصارف والشركات بالاحتفاظ بنسبة معينة من هذه السندات. وقد تم استخدام سندات الـ MEFO كما لو كانت نقوداً لا بل تم التهافت على اقتنائها اكثر من الاخيرة كونها مدرة للفائدة ومسندة الى اصول مقومة على عكس النقد النازي reichsmark والنقود الورقية الاجنبية الاخرى التي جميعها في جوهرها «محض ائتمان» وكانت النتيجة ابقاء تداول الـ MEFO والبضائع في حالة توازن. وتم استعمال هذه السندات في تمويل اعادة تسلح المانيا خلال عهد الزعيم النازي ليس فقط من دون اي تضخم، وهو امر لم يحدث مثيل له في التاريخ، بل ايضا من دون انتباه الحلفاء الذين كانوا يفرضون رقابة صارمة على عمليات المصرف المركزي لضبط اصداراته النقدية وتمويله الحكومة ضمن سقوف محددة اذ لم تكن عمليات الـ MEFO تمر عبر الحسابات النقدية للمصرف.
شهادات ضريبة الإئتمان
مؤخراً استرجع عدد من الاقتصاديين الطليان خطط Schacht النقدية غير التقليدية فاطلقوا مشروع اصدار « شهادات ضريبة الائتمان» CCF Credit Tax Certificates كعملة مكملة لليورو وقابلة للاستبدال به ويمكن استخدامها كأدوات دفع، بالتوازي مع اليورو، لشراء السلع والخدمات ويكون اكتسابها بدفع مستحقات ضريبية مستقبلية باسعار مخفضة مغرية لمعالجة الصعوبات الحادة التي يغرق فيها الاقتصاد الايطالي من تراجع الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع البطالة وركود كبير في الموارد وانخفاض طلب القطاع الخاص كما الانفاق الاستثماري والقيود الاوروبية على الميزانية العامة التي تحد من قدرة إيطاليا على اصدار ديون جديدة لإنعاش الطلب. وقد انتقد المشروع بانه يزيد خلسة من حجم الديون إلايطالية العامة للهروب من معايير ميثاق الاستقرار الاوروبي لكن الرد عليه كان بانه لا يخلق في الحقيقة عجزاً عند الإصدار ولا يشكل ديناً بالمفهوم التقني للكلمة.
وكانت حجة الاقتصاديين الطليان انه من خلال تفعيل برنامج CCF تستطيع إيطاليا أن تحل مشكلة فجوة الناتج دون طلب المساعدة من أحد ولن تكون هناك حاجة إلى اية مراجعة للمعاهدات الأوروبية وسوف يتوقف الدين العام عن النمو ويبدأ بالانخفاض نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما من شأنه أن يساعد في تحقيق هدف الميثاق الاوروبي للاستقرار والنمو.
3 توجهات أساسية
بالعودة الى لبنان، المبادرات والمشاريع الحكومية للخروج من الازمة تقوم بوضوح على توجهات اساسية ثلاثة (1) اغفال اي حديث عن مساءلة ومحاسبة لمسببي الازمة وتفاقمها وتماديها ومعظمهم معروفون بالاسم ولائحتهم تضم كوادر عليا واصحاب نفوذ مع التمويه ما امكن على ارتكاباتهم بالتشبث بقوة بعدم اجراء تعديلات على قانون السرية المصرفية تسهل عملية تدقيق جنائي عام يكشف الارتكابات. (2) التركيز على تقليص حجم التزامات المصارف بتقسيم الودائع الى فئات شتى بهدف تملص المصارف من ايفاء اكبر حجم ممكن من التزاماتها ازاء اصحاب الودائع وكان مصرف لبنان قد مارس في المرحلة الاولى من الازمة عملية تذويب مشينة للودائع لصالحه ولمصلحة المصارف. (3) تحويل ديون ودائع المودعين غير المضمونة الى سندات آجلة يصدرها صندوق سيادي ينشأ وتتجمع لديه ايرادات عامة يخصص قسم منها لايفاء مستقبلي للسندات. واهم الانتقادات لهذا الامر تحقيقه ابراء ذمم المصارف عن ارتكاباتها تجاه مودعيها بتحويل حقوق هؤلاء المودعين الى ديون آجلة على الصندوق تستحق بعد عقدين من الزمن او ثلاثة ويتعرض المودع خلالها لهيركات قاس في حال قرر حسم اي سند او التصرف به قبل حلول الاجل تماماً كما حصل ويحصل مع سحوباته النقدية على سعر صرف متدنٍ عن السعر الواقعي علما ان سعر السند عند حلول الاجل سيكون ايضاً اقل بكثير من قيمته الفعلية بفعل التضخم.
ما المعيب؟
والمعيب في جميع المشاريع الحكومية ان اعدادها واقرارها يحصل في اطار مجبول بتضارب فاقع ومشين للمصالح وبترابط قوي بين السياسيين والقيمين على القطاع المصرفي للحفاظ على المكاسب والارباح الاستثنائية المتحققة من الازمة اكثر من استعادة حقوق المتضررين منها اي المودعين على وجه اثار قلق مفوض الامم المتحدة لحقوق الانسان Olivier De Schutter الذي شكك في تقريره «بحصول اية مساءلة جدية عما جرى وايضاً بالتوصل الى حل عادل لمدخرات المودعين».
إعادة الأموال ممكنة
إن اعادة اموال المودعين الى اصحابها لا بل تعويضهم عن الاضرار التي الحقتها بهم تعاميم مصرف لبنان الجائرة والمخالفة للقانون وايضاً الاضرار التي سببها التأخر باستعادة المدخرات هو امر ممكن في حال اعتماد خيار يتماهى مع التجربتين الالمانية والايطالية الآنفتي الذكر ومنطلقه طرح عملة موقتة مكملة لليرة اللبنانية مسندة الى اصول مقومة وملموسة من عقارات واصول وحقوق تحوزها الدولة اللبنانية والمصارف ومصرف لبنان وهؤلاء هم «الثلاثي» المعني بالتسبب بانفجار الازمة وبتفاقمها. ويمكن استعمال العملة الموقتة فوراً من قبل المودعين في تعاملاتهم الداخلية على سعر يتحدد بنسبة معينة من القيمة السوقية للاصول المحجوزة لاصدارها وحجم العملات المصدرة، كما سيكون من الممكن لحملتها تحويلها الى الليرة في تواريخ محددة، مع امكانية دعمها عند الاقتضاء بفوائد تدفع عند التحويل الى الليرة كما حصل في المانيا. ايضا سيكون حاملو العملة الجديدة اصحاب «الحق الاقتصادي» للاصول المرتبطة بها فتعود لهم ايرادات هذه الاصول بعد اقتطاع نسبة معينة منها لصالح الخزينة لتأمين استمرارية ادارتها لهذه الاصول وتنميتها ويبقى لكل من «الثلاثي» اي الدولة ومصرف لبنان والمصارف الحق باجراء التصرفات القانونية على هذه الاصول كل في ما عناه لحين تمام سداد الودائع غير المضمونة وملحقاتها حسب الاصول. وفي حال اعلان توقف احد المصارف عن الدفع تعتبر الاموال المنقولة وغير المنقولة العائدة للاشخاص الذين تولوا ادارة المصرف ومفوضي مراقبته من قبل ثمانية عشر شهراً من تاريخ اغلاق المصارف ابوابها في تشرين الاول 2019 محجوزة لحين تثبيت التبعات القانونية وعندها تضم هذه الممتلكات الى اصول العملة الجديدة والفكرة ان اصدار الاخيرة لا يجب ان يعني ابداً اي ابراء لذمة ادارات المصارف عن ارتكاباتها التي ادت الى الازمة.
العملة الجديدة الموقتة
وتدعيماً لقاعدة العملة الجديدة المؤقتة يتعين اطلاق عملية استعادة لجميع العقارات والحقوق التي تم التصرف بها خلافاً للقانون من قبل المصارف خلال الازمة على الاخص تلك التي كانت مقدمة كضمانة لقروض دولارية تم ايفاؤها او تحويلها الى الليرة اللبنانية على سعر جد متدنٍ عن السعر الواقعي للدولار خلافا للقانون واجتهادات فقهاء مجلين وتقدر هذه القروض بثلاثين مليار دولار ما يعني ان قيمة الضمانة هي بحدها الادنى اربعين مليار دولار.
من حسنات هذا الحل انه يوفر فوراً للمودعين على الاخص غير المضمونين اداة نقدية قانونية جديدة للتعامل لا تدخل ضمن العناصر التي يعتد بها عادة في قياس معدلات التضخم بل على العكس ستحرك العملة الجديدة المؤقتة واقع استمرار تجميد الودائع الذي اشتكى منه Ernesto Ramírez Rego رئيس بعثة صندوق النقد الدولي بنهاية زيارته للبنان مؤخراً، وستكون هذه العملة مصدر ثقة لانها مسندة الى عناصر ملموسة محددة ومقومة على خلاف الليرة والنقد المصرفي المسندان على مجرد الائتمان ومن غير المستبعد ان يحصل تهافت على حيازتها كما فعل الالمان مع سندات الـ MEFO وسيكون من مصلحة كل من «الثلاثي» ممارسة جدية ومميزة في ادارة الاصول المحجوزة للعملة الجديدة لاسترجاع كامل عائداتها وبأسرع وقت من خلال تسريع عملية استبدال العملة الجديدة بالليرة اللبنانية بايفاء قيمة الودائع المحجوزة وملحقاتها بالكامل.
بعد توقف بنك انترا عن الدفع وفي اول جلسة عقدها المجلس النيابي للتداول بالامر علا صوت الراحل ريمون اده بقول التالي: لقد منح مصرف لبنان صلاحية الرقابة على المصارف ففشل بهذه المهمة ويجب نزعها منه فاستجيب لطلبه لكن بطريقة مشوهة بانشاء لجنة للرقابة على المصارف تقترح جمعية المصارف اسم احد اعضائها. والان مع الازمة - الكارثة الحالية يتردد صدى صوت الراحل اده بالتنبيه مجدداً الى ضرورة ابعاد مسببيها كليا عن الهيئة التي ستوكل اليها مهمة اصدار العملة الجديدة تماماً كما حصل مع الـ MEFO والاقتراح هو ان تعمد اللجان النيابية الى اختيار كوادر جامعية ومهنية لتعمل سوية لتلقي طلبات الترشح لعضوية الهيئة المنوي انشاؤها واجراء المقابلات مع المرشحين للتدقيق ببياناتهم الشخصية للتأكد من استقلاليتهم وعدم توافر اي تضارب للمصالح لديهم كما للوقوف على كفاءتهم العلمية والعملية ومناقبيتهم لاختيار المرشحين المقبولين حيث سيتعين على مجلس الوزراء اختيار اعضاء الهيئة منهم ويتم بالتالي انتخاب الاخيرين رئيساً لهم.
توفيرا للدعم المناسب للهيئة العتيدة للقيام بمهامها على افضل وجه من الضروري ان تمنح الصلاحيات الكاملة التي تمكنها من تتبع جميع المسائل الخاصة بالاصول التي ترتبط بها العملة الجديدة المصدرة للمحافظة عليها. والاقتراح في هذا المضمار فتح رأسمال مصرف لبنان في معرض العملية المخطط لها لاعادة تكوين رأسماله امام مساهمة القطاع الخاص كما هو الامر في دول متقدمة كسويسرا وبلجيكا ويكون الامر محصوراً في المرحلة الاولى بقبول مساهمة النقابات والتجمعات القطاعية وهيئات المجتمع المدني وايضاً وبصورة مؤقتة الهيئة المصدرة للعملة الجديدة خصوصاً ان قانون النقد والتسليف يلحظ انشاء لجنة استشارية لدى مصرف لبنان تتألف من ممثلين لقطاعات المصارف والصناعة والزراعة والتجارة اضافة الى ممثل من مجلس التصميم واستاذ في الاقتصاد وقد تم تغييب هذه اللجنة لاكثر من اربع عقود ما افاد الحاكم السابق سلامه بالتفرد والاطباق كلياً على ادارة مصرف لبنان ونسج تعاون وثيق مشبوه مع المصارف بظل غياب تام للمجلس المركزي حسب ما اورده تقرير Alvarez and Marsal بنتيجة تدقيقه في محاضر اجتماعات الاخير ما بين عامي 2015 و2020.
ان مشاركة الهيئة المصدرة للعملة الجديدة في راسمال مصرف لبنان سيمكنها من قرب من متابعة قرارات مصرف لبنان وايضاً المصارف من خلال لجنة الرقابة على المصارف ومن مطالبة المرجعين الاخيرين بتزويدها باستمرار بتقارير دورية بخصوص العقارات والاصول والحقوق المرتبطة بالعملة الجديدة. كما يجب ان تعطى الهيئة امكانية الحضور والمشاركة في لجنتي المال والموازنة والعدل والادارة وغيرهما لذات الأسباب السابقة.
(*) أستاذ محاضر في قوانين النقد والمصارف المركزية