قد يكون التهديد الذي أطلقه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في شهر شباط حول وقف كلّ المساعدات الأميركية إلى الدول الخارجية والاكتفاء بمنح القروض فرصة إيجابية مُقنّعة.
في العام 2017، حاول ترامب خلال عهده الرئاسي أن يُخفّض مستوى الإنفاق الأميركي على الشؤون الدولية بأكثر من الثلث. لكن قوبلت تلك المحاولات بالرفض من أعضاء الحزب الجمهوري الذي كان يسيطر حينها على مجلسَي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة. لكن تغيّر الوضع اليوم. خرج من الكونغرس الأميركي مسؤولون مثل جوني إيزاكسون وبوب كوركر: كان هذا الأخير قد صرّح في تلك الفترة أن اقتراح ترامب في العام 2017 لن ينجح. حصل تغيير بنسبة الثلث في مجلس الشيوخ منذ ذلك الحين، وشَهِد مجلس النواب تقلبات على نطاق أوسع بعد.
يبدو الأعضاء الجدد في المجلسَين أكثر تشكيكاً من أسلافهم بأهمية هذه الاستثمارات. في 23 آذار، وقّع الرئيس جو بايدن على مشروع قانون خاص بالإنفاق بقيمة 1.2 تريليون دولار، وهو يشمل تخفيض تمويله السنوي للمساعدات الخارجية الأميركية بنسبة 6 في المئة، لكن طالب الجمهوريون في مجلس النواب بأربعة أضعاف ذلك التراجع. وحتى السيناتور ليندسي غراهام المعروف منذ فترة طويلة بتأييده لتقديم المساعدات الخارجية عبّر عن دعمه لاقتراح ترامب المرتبط بالديون أولاً. إذا فاز ترامب بولاية أخرى خلال الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني المقبل، لا مفر من أن تتخبّط المساعدات الخارجية الأميركية.
لكنّ احتمال عودة ترامب إلى الرئاسة لولاية ثانية يزيد أهمية تحديث المقاربة الأميركية التي تُوجّه المساعدات الخارجية وتعود إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. تبرز الحاجة إلى طرح نسخة أكثر مواكبة لتطورات هذا العصر.
في السنة الماضية، سألنا مئات الجماعات في الولايات المتحدة وكلّ أنحاء العالم عن شكل التنمية الأميركية العالمية التي تناسب القرن الواحد والعشرين. تكشف أدلة متزايدة أن النمو الاقتصادي واسع النطاق يسمح بتعزيز نتائج التنمية البشرية والاجتماعية أكثر من تمويل مشاريع المساعدات العابرة. يكفي أن ننظر إلى اقتصادات حديثة مثل سنغافورة، وتايوان، وكوريا الجنوبية.
تكثر الفرص التي تسمح بإطلاق استثمارات من هذا النوع. في كانون الثاني، عرضت الصين على جمهورية الكونغو الديموقراطية صفقة مبنية على مبدأ الديون مقابل المعادن، بقيمة 7 مليارات دولار، لكن يُفترض أن تقدّم واشنطن عرضاً أفضل عبر المشاركة في استثمارات تُمكّن رجال الأعمال في الكونغو من امتلاك المناجم، ومعالجة المعادن، وبيعها لبقية دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة، تزامناً مع تجنب أعمال السخرة وتدهور البيئة.
يُفترض أن تبرم واشنطن اتفاقات مشابهة في عدد من القطاعات القادرة على رسم معالم الاقتصاد العالمي خلال العقد المقبل، أبرزها تصنيع الأدوية، والطاقة النظيفة، والخدمات اللوجستية الخاصة بسلاسل الإمدادات، وحتى شبكات تقوية التجارة مثل النطاق العريض وكابلات الألياف البصرية. كذلك، قد تسمح هذه الاستثمارات بتسريع حركة الشركات المسؤولة اجتماعياً التي تسعى إلى تحديد حد أدنى عالمي لمعايير الاستدامة وحقوق الإنسان.
لنقيّم مثلاً التكنولوجيا التي تطورت في إثيوبيا لتحويل مخلفات البلاستيك إلى مواد بناء بدل الإسمنت، ما يسمح بتوفير الطاقة وحماية البيئة في آن، أو التكنولوجيا التي تطورت في الكاميرون لإطالة صلاحية محاصيل نبتة الكسافا الأساسية من ثلاثة أيام إلى 18 شهراً، ما يسمح بتعزيز الأمن الغذائي لصالح المجتمعات التي كانت محرومة سابقاً. لننظر أيضاً إلى تكنولوجيا الطائرات المسيّرة التي تطورت في منطقة خليج سان فرانسيسكو، في الولايات المتحدة، لتقليص مدة نقل الدم، والأدوية، واللقاحات، إلى المناطق الريفية البعيدة من أسابيع إلى دقائق. تُستعمل هذه التقنية أصلاً في بلدان مثل رواندا، وغانا، واليابان.
لكن لا يبدو نظام المساعدات في الولايات المتحدة مستعداً لهذا النوع من المقاربات في الوقت الراهن. في هذا السياق، قالت مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية سامانثا باور أمام الكونغرس في السنة الماضية: «تكمن أكبر فجوة اليوم بين ما تطلبه البلدان وما نقدّمه لها في النمو الاقتصادي». أطلق عدد من القادة والمفكرين المتنوعين هذا النوع من الانتقادات أيضاً.
تهدف الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وهي أكبر وكالة مساعدات في البلد، إلى نقل معظم تمويلها عبر هبات كبرى وعقود على صلة بمشاريع خيرية تحصل لمرة واحدة فقط، لكن لا ترغب معظم الدول فيها بسبب مخصصات الكونغرس. كذلك، تكون مناقصاتها معقدة لدرجة أن يكتفي أكبر المقاولين الحكوميين بتقديم هذا النوع من الطلبات. في غضون ذلك، تتلقى وكالات تنمية أميركية أخرى، نشأت في الأصل لتعزيز النمو الاقتصادي المستدام وتطوير القطاعات الخاصة، جزءاً بسيطاً من ميزانية المساعدات الخارجية الأميركية الإجمالية.
تستطيع «مؤسسة تحدي الألفية» الأميركية أن تنشئ شركات مع دول شريكة للاستثمار في اتفاقات تقوم على النتائج وتعزز التنمية الاقتصادية. قد تأخذ «شركة تمويل التنمية الدولية» الأميركية حصصاً متساوية في الشركات مثلاً، وتستعمل أدوات تمويل مبتكرة مثل ضمانات الخسارة الأولى للتشجيع على زيادة الاستثمارات الخاصة في قطاعات محفوفة بالمخاطر، لكنها تحتاج إلى الاستثمارات رغم كل شيء.
لكن تواجه هاتان الوكالتان أيضاً قيوداً كبرى على مستوى إنفاق المال، واختيار البلدان المستهدفة، والعوائق التنظيمية التي تُصعّب التعاون مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية التي تحظى بتمويل أفضل. لا تملك أي وكالة فدرالية أميركية في الوقت الراهن الأنظمة، أو الموظفين، أو الميزانيات، أو الحوافز اللازمة، لدعم الابتكارات التي تفيد التنمية العالمية بطريقة مؤثرة.
من الناحية السياسية، يصعب تحديث طريقة تعامل الولايات المتحدة مع التنمية العالمية لتجديد توازن الاستثمارات بطرقٍ تعطي الأولوية للابتكارات، والنمو الاقتصادي المستدام، والتجارة متبادلة المنافع، بدل تقديم المساعدات أو القيام بأعمال خيرية.
يطلق هذا النوع من المبادرات انتقادات لاذعة من الأطراف الناشطة في قطاع المساعدات، فهي بَنَت إمبراطوريات صغيرة على أساس الفوز بعقود مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مثلاً. كذلك، تتكل أي مخصصات تعيق عمل الوكالة على دعم قاعدة انتخابية مارست الضغوط لتحقيق ما تريده. لكن قد يؤدي إحداث هذا النوع من التعديلات إلى كسب دعم الديموقراطيين والجمهوريين في آن.
أولاً، قد تنتقل أموال إضافية إلى أطراف محلية، ما يسمح بتحسين التنمية وجعلها أكثر إنصافاً. دائماً ما يكون الأشخاص الأقرب إلى المشكلات أقرب من غيرهم إلى الحلول أيضاً. في الوقت الراهن، تتلقى الجماعات المحلية حوالى 10 في المئة فقط من الاستثمارات الأميركية في المساعدات الخارجية (أو ربما أقل من هذه النسبة).
على غرار المدراء السابقين للوكالة الأميركية للتنمية الدولية، تتذمر باور بدورها من قلة المساعدات الخارجية الأميركية التي تصل إلى أطراف محلية، ويوافقها الرأي القيّمون على مؤسسة «هيريتاج». انتقد الكثيرون في أوساط التنمية التقليدية أجزاءً من اقتراحاتهم في شأن المساعدات الخارجية الأميركية، لكن تدعو أجزاء أخرى إلى إبعاد المساعدات بالدولار عن «الجهات العملاقة الناشطة في الولايات المتحدة» ونقلها إلى منظمات محلية، بالإضافة إلى زيادة الاستثمارات الأميركية التي ترتكز على نماذج تدعم النمو الاقتصادي والابتكار، لا سيما في قطاع الصحة العالمية.
ثانياً، قد تسمح هذه التحولات بزيادة الإنفاق الذي يقيم توازناً أفضل بين الكلفة والنتائج. وفق دراسة عن هذا الموضوع، قد يسهم نقل التمويل من العاصمة واشنطن إلى لاعبين محليين في توفير 32 في المئة من التكاليف على الأقل. حتى أن دراسات أخرى تشير إلى نسبة أعلى من ذلك. في الوقت نفسه، تعني زيادة الرساميل عبر شركة تمويل التنمية الدولية أن دافعي الضرائب الأميركيين قد يتلقون عائدات مالية مقابل جزء كبير من استثماراتهم الناجحة في المساعدات الخارجية.
أخيراً، قد يحمل هذا التحوّل الردّ الإيجابي الذي ينتظره أعضاء الكونغرس القلقون من قدرة الولايات المتحدة على منافسة «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، لكنه يوجّه رسالة خاطئة إلى الدول الأخرى حول أنواع الشراكات التي يريد الأميركيون إبرامها حين تفضّل الولايات المتحدة الاضطلاع بدور لاعبين شرعيين في الأسواق المحلية، أو في الأماكن التي تستميل جهات أكثر ابتكاراً من القطاع الخاص.
باختصار، يمكن عقد الشراكات مع بقية دول العالم تزامناً مع كسب دعم معظم المشككين بالمساعدات الخارجية. في الشهر الماضي، انضم النائب الجمهوري المحافِظ كوري ميلز إلى النائبة الديموقراطية سارة جاكوبز لتمرير مشروع قانون في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، بهدف تسهيل التعاون بين الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والشركاء المحليين وتجاوز قطاع المساعدات بالكامل.
كانت الأزمات الماضية كفيلة بإحراز تقدّم اجتماعي هائل. دفعت «لحظة سبوتنيك» الشهيرة بالولايات المتحدة إلى إرسال رجلٍ نحو القمر مثلاً، ومهّدت أزمة «كورونا» إلى إطلاق «عملية السرعة الفائقة» التي أنشأت الظروف المناسبة لطرح عدد من اللقاحات الفاعلة.
قد تنذر الأزمة المرتقبة في مجال المساعدات الخارجية اليوم بتغيير جذري طال انتظاره أيضاً. لكن هل سيستغل قادتنا هذه الأزمة ويحوّلوها إلى فرصة لإصلاح نظام معطّل بدل محاولة تدوير الزوايا؟