وهبي قاطيشه

لبنان السياسي والقناصل

حتى القناصل تعبوا من لبنان السياسي، بعد محاولاتهم لأكثر من مئة عامٍ على ولادته ، من نقلهِ إلى سنِّ الرشد الدولتي، بعد كلِّ أزمةٍ من أزماته التي لا تنتهي. حلمُ إلغاء الدول لصالح القوميات العربية، من موريتانيا إلى جبال زاغروس في إيران، فشل مع البعثيين في سوريا والعراق، ومع مصر واليمن وليبيا والجزائر... أمام تركيز شعوب المنطقة على بناء دولها؛ لكن هذا الحلم، وبالرغم من فشله وفشل أصحابه، لا يزال يُدغدِغُ مشاعر بعض اللبنانيين.

إفلاس النظرية القومية في بناء الدولة الكبرى، أدى إلى استيلاد الإسلام الجهادي، كبديلٍ عن الفكر القومي، المنهزم أمام مصالح الجماعة داخلِ حيِّزها الجغرافي: الوطن. بدوره سقط الإسلام الجهادي في بناء الدولة، بعد تجربته في الجزائر، وانهياره مع بن لادن، وولادته ميتاً في مصر؛ وها هو يكرِّسُ فشله في طهران، وأفلاكها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزه.

الدول الدينية سقطت في أوروبا منذ قرون لصالح القوميات؛ واستُهلِكت الدول القومية لتحلَّ محلها الدولة الديموقراطية الحديثة، التي ترعى شؤون مواطنيها داخل حيِّزهم الجغرافي ، من دون أن تفقدَ التواصل والتعاون والتنسيق، مع بقية المجموعات والدول، على أساس الإحترام المتبادل. بينما نحن في هذا الشرق، لا يزال بعضُنا مخدَّراً بالدولة الدينية الفاشلة، التي نعيش فشلها في حياتنا اليوميَّة.

يُشكِّلُ لبنان نموذجاً عن هذا الفشل الصارخ في تأمين حياةٍ كريمةٍ لمواطنيه؛ لأن أحد مكوناته لا يزالُ مؤمناً بإقامةِ دولةٍ دينيَّةٍ. والأخطر أنه يربّي أجياله على أسس الجهاد، ويتحكَّم بما تبقّى من مفاصل الدولة الحديثة، لتهديمها وسلب أنقاضها لصالح مشروعه، الفاشل أصلاً كنموذجٍ في طهران. فكيف له أن ينجح في بلدٍ كلبنان!؟

فشلُ إقامةِ الدولة في لبنان، يدفعُ بالقناصل إلى التحرُّك لسببين: الأول، رفضُ بقيةِ اللبنانيين هذه الثقافة المستجدّة الغريبة عن تاريخهم، والمناهضة لعروبتهم ومستقبلهم؛ والثاني، استحالة فرض ثقافة دولة الولي الفقيه بالقوة على الدولة اللبنانية، لئلا تتحوّل إلى ساحةٍ متفجِرة. وانفجار الساحة في لبنان، هذه المرة وعلى هذه الأسس، يطيحُ حتماً لبنان السياسي، كما حذَّر أخيراً مندوب «القناصل» الخمس الحاليين، المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان.

أصحابُ القرار في لبنان، يُدركون معاني ومرامي ومخاطر هذا الكلام عن لبنان السياسي وجغرافيته. فـ»حزب الله»، الذي يُعطِّلُ مسار الدولة يرغب في عقد الصفقة مع القنصل الأول في واشنطن؛ والقنصل الأول في واشنطن غيرُ راغبٍ، إن لم نقل غيرُ جاهزٍ (اللهُ أعلم)، بإجراء هكذا صفقاتٍ مع «الحزب»، أو مع مرشده في طهران، مباشرةً أو بالواسطة، على حساب لبنان. ومن قال إنّ اللبنانيين يوافقون حتماً على صفقات الحزبِ مع القنصل حتى ولو كان القنصل الأول، هذا إن حصل!

«الحزب» يتهم بقية اللبنانيين بـ»الأمركة» و»القنصلة»، بينما هو، أو من ينتدبه، يلهثُ للتحاور مع القنصل الأول لبيعه شيئاً من السيادة، لكسب المصالح الخاصة أو مصالح محور الممانعة على حساب لبنان واللبنانيين.

غريبٌ أمرُ هذه الجماعة! نحن نحاولُ تحرير لبنان من القناصلِ بالذهاب إلى المجلس النيابي، وهم يرفضون الذهاب إلى المجلس النيابي، وينتظرون اللقاء الجدّي مع القنصل الأول ليعقدوا الصفقة، ثم يتهموننا بالقناصل.

لقد تجاوز لبنان الكبير «قطوع» الإتجار بالقوميات بنجاح؛ وها هو اليوم يقاوم التجارة الجديدة بالفكر الجهادي الديني، غير المتجانس مع مكوِّناته الإجتماعية. من هنا خطورة الوضع على لبنان السياسي كما حذَر منه إيف لودريان، إذا استمر الجهاديون الجدد في تطبيق مشروعهم الفاشل على لبنان.

(*) نائب سابق في تكتل «الجمهورية القوية»