د. فادي كرم

حوار المحاصصة أو تشاور للرئاسة

أخذت المشاورات المتعدّدة الاطراف، اللبنانية وغير اللبنانية، حول كيفية عقد جلسة حوارية تسبق جلسة الانتخابات الرئاسية، مداها الأقصى والطويل والمُملّ، وتوقّفت كل المساعي أمام واقعين: أولّهما، نيّة الفريق المُمانع، المُعطّل للدستور اللبناني على مدى حوالى عشرين سنة، باستخدام طرح «الحوار» للتمويه عن التعطيل الذي يمارسه بحق الديمقراطية وحق الاختيار. وثانيهما، هدفيّة المحور ذاته من نقل المشاورات والحوارات من البحث في الرئاسة والمرشّحين إلى التباحث حول الأعراف التي تناقض الدستور.

إستخدم هذا الفريق المُعطّل للدستور اللبناني وللحياة السياسية، الديمقراطية بنجاحٍ، حجّة الميثاقية لأجل التعطيل، بدل احترام فلسفة الدستور التي هدفت من مفهوم الميثاقية، إلى ضمان الشراكة الوطنية، واستطاع تحويل طروحات التشاور والحوار من أن تكون وسيلة للتواصل الايجابي والتقارب الحضاري بين أبناء الوطن الواحد، إلى مفهوم التنافس مع الذات في سحب الارانب التسوويّة، وفي شيطنة الشراكة ليُحوّلها حفلة محاصصات، وفي إلغاء الاكثريات النيابية ليُسلّم الاقلّيات المسلّحة، الحكم، وكل ذلك تحت شعار شريف، وهو «الحوار». استطاع هذا المحور التمادي في تسخيف دور المشاورات لأجل التحالفات الانتخابية والتنافس الديمقراطي، بتسويق مفهوم الحوارات لاجل التسويات، خادعاً اطرافاً من الداخل، ومستغلّاً توقهم لضمان الاستقرار، وملغّماً الطروحات من الخارج، لجهلهم للفرق بين إنعكاسات كل من الحوار أو التشاور، على الشراكة الوطنية.

تُجري القوى السياسية في دول العالم الحرّ والمُتحضّر والمُستقرّ، حوارات ومباحثات ومشاورات كثيفة، قبل كل استحقاق تشريعي أو انتخابي، وتعقد اجتماعاتها ولقاءاتها التفاهمية التحالفية، ولكن لم يحدث في الدول الحرّة أن تمّت الدعوة إلى جلسات حوار للإتفاق على خوض جلسة الانتخابات، فهذه أمور إن حدث خلاف عليها، تُترك للمجالس القضائية لبتّ قانونيتها.

فلنتصوّر مثلاً، أن يدعو الآن الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة خصمه السياسي، أي الحزب الجمهوري، إلى جلسة حوار عنوانها، سحب مرشّحه دونالد ترامب، للمرشّح الديمقراطي جو بايدن، مقابل نيل الجمهوريين بعض الامتيازات في المجلس النيابي أو مجلس الشيوخ. أو فلنتصوّر لو أنّ الرئيس التركي، اوقف الانتخابات الرئاسية التركية السنة المنصرمة، ليدعو أخصامه إلى جلسة حوار لاقناعهم بضرورة وأهمّية اعادة انتخابه، مقابل بعض المحاصصات في الحكم.

إنّ مِثال طروحات كهذه، إن تمّ اللجوء اليها في كثير من الدول، قد تأخذها إلى اضطرابات خطيرة وصدامات اهلية تُهدّد بسقوط انظمة ودول، لأنها ستُعدّ محاولات فاضحة للخروج عن القوانين الراعية للعلاقات بين المتنافسين والمختلفين، ومسارات كهذه لا تسلك خطواتها الا في الدول الديكتاتورية والقمعية، عندما تدعو السلطات إلى مؤتمرات التصفيق للزعيم المؤلّه، الذي تتمّ مبايعته قسراً من قبل الشعب والمسؤولين في النظام، والمهمّ من المؤتمر، الصورة وتوزيع المراكز الخدماتية للزعيم.

وهذا هو السرّ الكامن خلف الدعوة للحوار التي نسمع بها يومياً على ألسنة قياديي محور المُمانعة. فدعوتهم هي لضمان إبقاء لبنان ساحةً لصراعاتهم، أمّا الدعوة للمشاورات التي يطرحها المُعارضون، فهي محاولة لتحرير لبنان من فلك الساحات وإعادته إلى اهله، العاشقين للحرّيات. إنّ الصمود البطولي لشعب لبنان، بما يُمثّله من أحزاب وقياديين مُتمسّكين بمبدأ الروح اللبنانية الاصيلة، المؤمنين بالحوار الحقيقي، غير الباحثين عن الاجماع على طرحٍ ما، بل الساعين لحوارات تفتح المجال أمام نيل الاجماع الوطني الصادق على تفاهم وطني. فالحوارات التي تنعقد بهدفيّة فئوية، ليست حوارات، بل مناورات كلامية ونصّية.

يشهد لبنان حالياً طرحين، أحدهما، يأخذ بنظرية من نظريات جوزف غوبلز، وزير الاعلام والدعاية عند هتلر، والقائلة بـ»أقوى سلاح عند المُخادع عقل المخدوع» متّكلاً على عدم استيقاظ عقل المخدوع، إمّا لأنّه مستفيد، وإمّا لأنّه أجبن من أن يستيقظ من نومة اهل الكهف. قال المؤلف والكاتب الانكليزي روديار كيبلينغ «الكلمات هي أقوى منوّم تستخدمه الانسانية»، ويدلّ هذا القول على فئة من اللبنانيين المتجاهلين قصداً أو عن غير قصد للفرق بين «جلسة الحوار» بشكلها الرسمي التي يدعو لها الرئيس نبيه برّي، وبين جلسات «التشاور» التي تجري دائماً قبل كل استحقاق تشريعي أو انتخابي او حتى تصويتي على اقتراح ما. ومن حسن حظ اللبنانيين، وجود فئة من الأحزاب والمجموعات السياسية الصامدة والمتمسّكة بكل شجاعة بلبنان «الانسان والحرّيات»، معتمدين على قول للصحفي والمؤلف الاميركي مينون ماكلوفين «الشجاعة التي تُفيد هي التي تنقل الاوضاع من مكان إلى مكان آخر».

(*) نائب في تكتل «الجمهورية القوية»