عودة: ماذا ينتظرون؟ ألا يعْرفون أنّ الجسم بلا رأس يموت؟

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.


بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "المسيح قام منْ بيْن الأموات ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للّذين في القبور، أحبّائي، في هذا الأحد الأخير من الفترة الفصحية، وقبْل عيد الصعود الذي نحتفل به الخميس القادم، نقرأ المقْطع الإنجيليّ الذي يتحدّث عنْ شفاء الأعمى منْذ مولده. إنّ النّظر هو أحد الحواسّ الأساسيّة الّتي منحها الله للإنسان، وهو صلته بالعالم الخارجي. العيْن هي الباب الذي منه يدْخل النّور إلى الإنْسان ليرى ما حوْله ويتفاعل معه. فقْدان هذه الحاسّة، أي العمى، هو إنْقطاع عنْ العالم الظّاهر، وحلول للظّلْمة مكان النّور. غيْر أنّ للكتاب المقدّس نظْرةً مخْتلفةً تجاه هذه الحاسّة لأنّ المهمّ، منْ منْظور الله، هو البصيرة لا البصر، خصوصاً أنّ العلاقة مع الله الخالق غيْر المنْظور لا تحْتاج إلى البصر بلْ إلى البصيرة، الأمْر الذي تلْفتنا إليْه الكنيسة المقدّسة منْ خلال تشْديدها على أنّ قيامة الرب منْ بيْن الأمْوات لا ترْتبط برؤْية الرب القائم رؤْيةً حسّيّةً، بلْ رؤْيةً داخليّةً ترْتبط بالقلْب، كما قال الربّ يسوع القائم من بين الأموات لتوما: “طوبى للّذين لمْ يروا وآمنوا” (يو20: 29)، وكما يقول الرّسول بولس: “لأنّك إن اعْترفْت بفمك بالرّبّ يسوع وآمنْت بقلْبك أنّ الله أقامه من الأمْوات خلصْت، لأنّ القلْب يؤْمن به للبرّ والفم يعْترف به للخلاص” (رو10: 9-10)".


وتابع: "قصّة الأعْمى منْذ موْلده الّتي سمعْناها اليوْم، تشدّد على الإيمان القائم على قبول البشارة دون الإعْتماد على ما يظْهر لنا منْ خلال النظر. يخبرنا إنْجيل اليوم أنّ الرّبّ يسوع سمع أنّ الفرّيسيين أخْرجوا الأعمى خارج المجْمع فوجده وقال له: “أتؤْمن أنت بابْن الله؟ أجاب ذاك وقال: منْ هو يا سيّد لأؤْمن به؟ فقال له يسوع: قدْ رأيْته والّذي يتكلّم معك هو هو. فقال له: قد آمنْت يا سيّد. وسجد له” (يو 9: 35-38). لوْ لمْ يعْلنْ الأعمى الّذي أبْصر بعيْنيْه إيمانه، لكان بقي أعمى البصيرة، في المقابل، تحذّرنا الكنيسة منْ خطورة النظر إلى الأمور بخلاف ما هي عليْه، فقطْ لأنّنا نريدها أنْ تكون كما يحْلو لنا. لقدْ قال الرّبّ يسوع: “لوْ كنْتمْ عمْياناً لما كانتْ لكمْ خطيئة، ولكنْ الآن تقولون إنّنا نبْصر فخطيئتكمْ ثابتة” (يو 9: 41)".


أضاف: "على الإنْسان أنْ يحافظ على حاسّة النّظر، وأنْ يسْتخْدمها بشكْل صحيح، لينْظر نور الله خالقه ويمجّده. أمّا إذا اسْتخْدمها بشكْل خاطئ، فهذا الأمْر سيؤدّي إلى انْقلاب الأمور رأْساً على عقب، ويصْبح النّور الخارجيّ ظلاماً داخليّاً، ولا يعود يرى الله منْ خلال خليقته وعمله الخلاصيّ، كما نسمع في إنجيل متّى: “سراج الجسد العيْن. فإنْ كانتْ عيْنك بسيطةً فجسدك كلّه يكون نيّراً، وإنْ كانتْ عيْنك شرّيرةً فجسدك كلّه يكون مظْلماً. فإنْ كان النّور الذي فيك ظلاماً، فالظّلام كمْ يكون؟” (مت 6: 22-23)، يا أحبّة، إنّ العمى في أيّامنا يصيب العديد من المبْصرين، خصوصاً أولئك الّذين يتمسكّون بالقشور والمظاهر الخارجيّة للإيمان، البعيدة عنْ محبّة الله الحقيقية، ومنهم من يدّعون أنّهم أبناء الكنيسة، لكنّهم لا يألون جهداً في تشويه صورة الكنيسة لدى إخوة يسوع الصّغار. لقد قال الرّبّ: “طوبى للّذين لم يروا وآمنوا”، فهل على المؤمن أنْ يرى كلّ ما تفعله أمّه الكنيسة لكي يصدّق أنّها تفعل كلّ شيء منْ أجله ومنْ أجل خلاص نفسه؟ هلْ يعرف الولد كلّ ما تقوم به والدته منْ أجْله وهو نائم؟ مع ذلك هو يثق بها وبأنّها تحبّه ولنْ تؤذيه أبداً".


وقال: "في نهاية هذا الموسم الفصحيّ الذي فيه شهدْنا لقيامة ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح وغلبته على الخطيئة والموت، نصلّي كي ينير الربّ بصيرة البشر، والمسؤولين عندنا بشكل خاص، كي يدركوا المسار الصحيح الذي يجب أنْ يسلكوه لخلاص البلد. مسؤولو لبنان وزعماؤه وقادته ينْطبق عليهم قوْل الربّ: “لأنّهم مبْصرين لا يبْصرون وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون. فقد تمّتْ فيهم نبؤة إشعياء القائلة تسمعون سمْعاً ولا تفهمون ومبصرين تبصرون ولا تنظرون. لأنّ قلْب هذا الشعب قد غلظ وآذانهم قد ثقل سماعها وغمّضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم” (متى 13: 13-15)، يبدو أنّ المسؤولين لا يسمعون أنين الشعب ولا يروْن بؤس الحالة التي وصل إليها معظم أبناء هذا البلد. سنوات مرّتْ على انتفاضة المواطنين وعلى تفجير العاصمة وعلى انهيار البلد. انتهتْ ولاية مجْلس النواب السابق والرئيس السابق، وانتخب نواب آخرون فلا هم قاموا بواجبهم الدستوريّ ولا الحكومة طبّقتْ برنامجاً إنقاذياً".


وسأل: "ماذا ينتظرون؟ ألا يعْرفون أنّ الجسم بلا رأس يموت؟ ألا يدركون جميعهم، نواباً وحكومةً وزعماء، أنّ البلد إذا زال لنْ يبقى ما يحكمونه أو منْ يمثّلونهم أو يتزعّمون عليهم؟ ولنْ تبقى مراكز يتسابقون إليها وكراس يتنافسون عليها؟ منذ أيّام اسْتذْكرْنا إنساناً كبيراً نتذكّره كلّ يوم، وهو منْ ترك أثراً كبيراً في أجيال هذا البلد وفي تاريخه. غسان تويني، شعْلة الحرية، وعنوان الإيمان والثقافة والإنفتاح، الثائر على الظلْم والجهْل والتعصب وتلوّث الفكر وانحطاط الأخلاق، المدافع عنْ لبنان ودوره، والرافض جعْله ساحةً يتقاتل عليها الآخرون، حامل لواء الديمقراطية والحق والعدالة، القائل: “لا حياة للبنان ولا مستقبل للتعايش فيه منْ دون ديمقراطية. السيادة كالإسْتقْلال تبنى من الداخل ولا تؤخذ من الخارج بأمْن مسْتعار قد فشل، فكيف بدفاع مستعار؟”. لو كان حيّاً لكان أوّل الرافضين لما نعيشه منْ خرْق للدستور وتعْطيل لانتخاب رئيس واسْتباحة للْبلد ولحقوق الشعْب. رحم الله غسان تويني وألهم المسؤولين الحاليين السيْر على خطاه في الدفاع عن الحرية والديمقراطية والسيادة والإستقلال".


وختم: "لنسلّمْ قلوبنا إلى الله، طالبين إليْه أنْ ينير عيوننا وعيون المسؤولين، وبصيرتنا، وقلوبنا، حتّى نعْرفه كما هو بالحقيقة، ونؤمن أنّه إلهنا الّذي افْتدانا بدمه، ونعْترف مع الأعْمى بأنّ الربّ يسوع هو ابْن الله ونسْجد له، آمين".