الكثير والكثير من الأعمال الدرامية والسينمائية تناولت النظام العالمي بقيمه ولاقيمه، بإنسانه اللاإنسان، بأمانه اللاأمان. في السنوات الأخيرة، أخذت مسلسلات وأفلام كورية جنوبية رواجاً. قدّمت رمزيات عن سلبيات مدمّرة للنظام الاقتصادي التكنولوجي الفكريّ الترفيهي. في 17 أيّار، بدأت «نتفليكس» عرضَ مسلسل The 8 Show. عنوانه دليله. 8 حلقات. 8 أشخاص. 8 طوابق. 8 أقدار تختصر العالم ونهجَه. الساعة تدقّ في برنامج دخله المشاركون الثمانية بملءِ إرادتهم. فهل سيخرجون منه بكامل عافيتهم؟ الوقت وزنه ذهب. كلّما أطالوا مدّة مكوثهم كسبوا مالاً أكثر.
العمل مبنيّ من القصص الرّقمية التي نشأت في كوريا الجنوبية Money Game وPie Game. هويّة هذا المسلسل ستقود تفكيرك إلى مسلسلات كوريةّ ذات روحية مشابهة. أشهرها Squid Game. غير أنّ ما يجمع العملين أقلّ ممّا يفرّقهما. في المسلسل الجديد، إذا مات أحد المشاركين ينتهي البرنامج ويخسر الجميع. أمّا في الثاني، فالموت شريعة أساسية. تستمرّ الألعاب. يُقتل الجميع. ويجني مشترك واحد فقط كلّ الثروة.
يبدأ The 8 Show مع حياة الممثل Ryu Jun Yeol ما قبل دخوله البقعة الغامضة. عاش مع فقر وديون. قراره بالانتحار تمنعه رسالة وصلت على هاتفه. كانت الصنارة ليقبل الدخول إلى هذا العالم الافتراضيّ -الحقيقيّ. انتقى كما الجميع بطاقته اعتباطياً. اختار الرقم 3. بات نصيبه أن يقطن الطابق الثالث في بناية من 8 طوابق. هو الراوي. صوته في الخلفيّة. يسرد. لكنّه غالباً ما يُخبر ويوضح الموضَّح. هذا الحيّز يُعيي ويضجر. المتسابقون الثمانية اختاروا طوعيّاً الانضمام. اجتازوا ستارة حمراء. هي ربّما دلالة على حبل سرّة أو بوابة رحم تفصل بين الحياة وما قبل قدومنا إليها. نُقذف فيها. نولد في بيوت أغنياء أو فقراء، مع مشرّدين أو نافذين، بين جدران من ضوء أو ظلم. نولد وفي الأفواه ملاعق تعب أو ذهب.
المسلسل تتسيّده الرمزيات عن الرأسمالية، الطبقية، اللّامساواة واللّاعدالة. الساعات والشهور التي تمرّ على المشاركين صعبة. ولكنّ الأربع والعشرين ساعة لا توزّع كرمها على الكلّ بالتساوي. يكسبون المزيد من المال ليس بمهاراتهم، بل بسبب حظّ أو قدر لا نستطيع تقديره ولا اختياره في ولادتنا. قاطنة الطابق الثامن تتضاعف ثروتها على عدد الدقائق. وكلّما هبطنا طابقاً، قلّ حجم المال المضاف إلى رصيدهم. طبقيّة بالأرباح. طبقيّة بالأخلاق. إذا اعتمدتَها مع من لا يستحقّ، فستقع ضحيّةً في دنيا بين سلاحف وأرانب في ظلّ وقت يتحكّم به مشاهدون لا نشاهدهم. يضيفون ساعات أو دقائق أو أياماً بحسب استمتاعهم بما يَروْنه. هكذا تُفتح شهيّة المشاركين وشراهتهم ليزيدوا الوقت. فتزداد الأرباح. والثمن: حمّام دم، خلافات، رعب، جنس، لعب على الحبلين، نفايات، براز، وخيانات...
الطوابق فروقات اجتماعية. فوق وتحت. الجماعات السفلى تُستَعبد من العليا. تهان وتتحمّل الإهانة. تصمت عن الظلم من أجل جني مال وحياة لائقة. تخضع لأنّ طعامها وماءَها تصدّرهما قاطنة الطابق الثامن. هي سيّدة نعمتهم رغم أنّها أقلّهم حركةً وبركةً. هكذا أدركت وأصحاب الطوابق العليا أنهم ليسوا بحاجة للكدّ والكدح لمضاعفة الوقت بتعب ووجع. بالقوّة والحاجة، يوكلون المهمّة لمن هم أقلّ حظّاً. هم أشبه بالديكتاتوريّ في الحياة. يستمرّ بنهجه ويستلذّ بعذاب الآخرين.
الضعفاء يتَّحِدون. يحاولون التغلّب على الأقوى. ينجحون لبرهةٍ. ينتشون بفوزهم. غير أنّهم سرعان ما يعودون إلى قدرهم. رويداً رويداً، تتوضّح خلفيّاتهم. للكلّ أهداف وغايات ماديّة ومعنوية. لم يُسمّوْا بأسمائهم. الأسماء مُحِيت. صاروا أرقاماً. الشخص ليس الهدف الأهمّ. فالرقم نموذج لما يمثّله هذا الفرد وما يراد منه. قلبٌ طيّب، قويّ بدنياً، لا أخلاقي، ذكيّ، إلخ. في مرحلة التأسيس والتعريف بهذه الشخصيات، كانت سماتُهم في وجوههم. عيّنات مختلفة وضغوطات متعدّدة متفاوتة. رغبات غريزيّة تتحكّم بهم من عطش وجوع وجنس. الأخير يقلب ميزان القوّة ويغيّر مسار القصة. هكذا، تطلّ المفاجآت مع شخصيات عزّزت الصور النمطية. (وربّما هذا كان الهدف منها). كانت أحادية البعد مع فتحات تهوئة لم تسدّ الفجوة. لا شيء في ما قدّم، يجعلها جذعاً مؤسّساً. وإن حضرت الأبعاد النفسية والاجتماعية للمتسابقين، لكنّها في مرتبة دنيا عن أحداث سبقتها. عزّزها نزاع على السلطة وصراع من أجل البقاء وسط ألغاز تُوطِّد الزخم والانتظار كقوّة دافعة لمتابعة المشاركين المتأرجحين بين قبول مصيرهم أو اللعب عليه.
إيقاع العمل تأرجح كما مصير هؤلاء. الحلقات الأولى بحبكتها جذبت. ولكن في المنتصف، ندخل في نفق طويل من عنف متكرّر. سادية واقعيّة. ورغم هذه الدوّامة المتحركة، فالروتين يتغلغل مع فوضى متقلّبة. لكن القصة وبعد كل هبوط درامي، تلتقط نفسَها وتعاود السير في عمل من استعارات، استعار الطبقية الرأسمالية بسواد ظلمها، واستعار الواقع على مواقع التواصل الاجتماعي وشاشات الوسائل الإعلامية. وَضَع بالدم والخطر خطّاً تحت ترفيه نلهث وراءه. يبدأ بريئاً وينتهي مجرماً في لعبة المشاهدات والرايتينغ. في المسلسل، مشاهدون مجهولون خلف كاميرات المراقبة. وفي حقيقتنا، يمثّلون جماهير تطمع بالمتعة من جهة، والمسيطرين على عالم الإعلام التقليديّ والافتراضيّ. ونحن ضمن لعبتهم وقواعدها عبيد اللذة والطمع. إذا أراد المشارك معهم التعمّق في لعبتهم، فعليه أن يزيد من خنوعه أو جنونه. هكذا يحافظ على صورته ضمن صورتهم التي تصنع «الصورة». ولا تلدغه عقاربُ وقت يصنّعون ساعاته. ويوقفون، متى أرادوا، شهرتَه ونفوذه وصوته وضوءه. الوقت معهم يعادل المال. الأخير لم يعد هدفاً. إنّه القيمة. كلّ ذلك يقدّمه المسلسل تضمينيّاً بأحداث تحتمل كل هذا التأويل. لا تشتّت ولا تعظ. تقدّم هذه المساوئ. لا تنتفض. تسير إليها. ونحن نسير. ساعة، تلو شهر، تلو عام، نسير. نسير. ونسأل: كيف المصير؟!