وهبي قاطيشه

لبنان في الأزمة الأخطر

وُلِدَ قيصريَّاً حاملاً في جيناته أزماتٍ عديدة؛ تبدأ بالإنتماء، فالجغرافيا، فالطائفة، فالحقوق، فالتوازن. أزمات عانت من بعضها أوطانٌ كثيرة في العالم؛ غير أنَّ هذه الأوطان نجحت في حلِّها بالإتفاق على أُطُر الدولة الحديثة. لكن الطموحات الشخصيّة لبعض القوى الداخلية في لبنان، سخَّرت هذه الأزمات لتحقيق المكاسب الخاصة على حساب الدولة؛ ما دفع ببعض دول المحيط إلى الإستثمار السياسي في أزماتنا الداخلية. وبالرغم من ذلك نجح لبنان، بتعاون بعض الأشقاء والأصدقاء، في تجاوزِ معظم هذه الأزمات، ليُجبَه مؤخراً بأزمةٍ هي الأخطر في تاريخه الحديث: إستحضار الإله في لعبةِ الأزمات.

فالأزمة الداخلية في لبنان اليوم هي وجودية - إلغائية، بين مكون لا يؤمن بهذه الدولة ككيانٍ مستقل عن محيطه، أسوةً بباقي دول العالم؛ إذ يعتبرها وفق دستوره الخاص، محطة وجزءاً من دولةٍ أوسع لا حدود جغرافية لها، إنّها الأمةُ الأوسع التي تتجاوز الحدود الجغرافية، لتصلَ إلى موطئ قدم آخر مواطنٍ فوق هذا الكوكب مؤمناً بالدور المذهبي لهذه الأمة؛ وبين مواطنين من مختلف الطوائف يؤمنون بلبنان وطناً للجميع ضمن حدوده الجغرافية، وفقاً للمواثيق الدولية والدستور اللبناني.

من هنا جوهر الأزمة الحالية: بين أن يكون لبنان محطة في خدمة المشروع الأممي الإلهي الأوسع بقيادة أقليَّة، أو أن يكون وطناً بقيادة أغلبية مواطنيه.

الخطورة في الأزمة اللبنانية اليوم هي إدخال الإله في الخلاف على تكوين الدولة؛ لأنّ القيِّم الحالي على هذه الدولة يستند في تسويق نظريته إلى الأمور المستعصية التالية، التي لا يؤمن بها اللبنانيون، لأنّها غريبةٌ عن دستورهم ومواثيقهم:

- إدارة شؤون الناس بتكليفٍ إلهي كما أوصى الولي الفقيه، بعيداً عن القوانين الموضوعة للدولة.

- الإرتباطُ العضوي بالمرجعية الإلهية الغريبة، التي تُموِّل وتُجهِّز وتُطعم وتدفع إلى الحروب، كلُّ ذلك ضد إرادة أغلبية المواطنين في الدولة، ومن بينها القسم من بيئته الذي لا يؤمن بولاية الفقيه.

- استظلال احتلال مزعوم لأراضٍ لبنانية، وإن كان هذا الإحتلال لا تتجاوز مساحته بعض الدونمات إذا كان ذلك صحيحاً وقد يمكن استعادتها سلميَّاً، لخوضِ حروبٍ باسم لبنان وعليه خلافاً لإرادة معظم اللبنانيين، ليتحوّل هذا الوطن إلى «هانوي» في خدمة الغريب. غداً ستنتهي الحرب في الجنوب ولبنان؛ ومع كل النتائج السلبية التي أصابت اللبنانيين حتى الآن، من ضحايا ودمارٍ ونزوح واقتصاد، سوف يرتدُّ «الحزب» نحو الداخل رافعاً علامة النصرِ الروتينية، الفاقدة لأي مضمونٍ علميّ؛ فما هو موقف اللبنانيين من الحزب وحلفائه؟

- هل لا يزال اللبنانيون موافقين على ذلك «الإختراع» اللبناني الفريد من نوعه، والمسمّى الثلاثية الخشبية في تشكيل حكوماتهم!؟

- وهل يستمرون صامتين على محاولة تعديل الدستور بعرفٍ يسبق كلَّ انتخابٍ لرئيس الجمهورية بحوارٍ أو (للتلطيف) بتشاور، بهدف استحداث مناصب جديدة، بأعرافٍ جديدة، كمرشدٍ ووليٍّ لهذه الجمهورية؟

- وهل يرضون أن يبقى الدستور وتشكيل الحكومات رهناً بأعرافٍ مستحدثة، تضعُ المال العام في الدولة؛ من وزير المال حتى آخر إدارةٍ مالية في أي وزارة، وصولاً إلى الطابع المالي، بتصرُّفِ جهة قابضة لوحدها على المصير المالي للشعب اللبناني؟

فكيف يمكن تشغيل عجلة الدولة في هكذا ظروف؟ وبأي دولةٍ، وبأي شروط؟

وهل يمكن للبنانيين أن يرتضوا بالعيش في دولة تتَّخذ من طهران أو بغداد الحاليتين نموذجاً لإدارةِ شؤون المواطنين! وهل ترضى البيئة غير المؤدلجة لدى الثنائي، بالعيش في هذا النموذج؟!

أغلبيةُ اللبنانيين، ومعهم قسمٌ كبيرٌ من البيئة الحاضنة للثنائي، يرفضون العيش في هكذا دولة. لذلك فالمواجهة الفاصلة قد تكون حتمية، بعد انتهاء الحرب الحالية، بين الفريقين: الفريق الذي يعملُ لدولةٍ بلا حدود والفريق المؤمن بالدولة وحدودها الجغرافية. إنها مسؤولية الجميع، والبيئة الحاضنة ضمناً، لأنّ النموذج المقترح لن يُبقي للأحرار، أيَّاً كان مذهبهم، مكاناً حُرَّاً في لبنان.

(*) نائب سابق في تكتل «الجمهورية القوية»