بدأ احتمال حصول إبادة جماعية يلوح في أفق السودان مجدداً، في ظل احتدام حرب أهلية جديدة ومتفجرة. لكن تغيب هذه المرة التجمعات والدعوات إلى تنفيذ تدخّل عسكري خارجي. حتى أن معظم قادة العالم يكتفون بإدانة الأعمال الوحشية شفهياً ولا يتخذون أي خطوات عملية. أسفر القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية عن مقتل عشرات آلاف الأشخاص وتهجير حوالى 9 ملايين آخرين منذ بدء الصراع في نيسان 2023. اتّهمت الولايات المتحدة الطرفَين بارتكاب جرائم حرب وأعمال وحشية، واستنتجت أن قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها نفّذت حملات تطهير عرقي.
يقول مسؤولون وعمال إغاثة غربيون يعملون في السودان إنهم غاضبون ومرتعبون من غياب الاهتمام الدولي والموارد المخصّصة لهذا الصراع، ولا سيما عند مقارنة الوضع الراهن بالاستجابة العالمية في العام 2006.
إذا استمرت هذه النزعة ولم يظهر أي رد دولي قوي على الأزمة، هم يحذرون من انهيار السودان وتحوّله إلى دولة فاشلة واحتمال أن يشهد البلد إبادة جماعية شاملة مجدداً.
تنتقد منظمات الإغاثة والمسؤولون الناشطون في السودان قلة الاهتمام بهذا الصراع منذ فترة طويلة، على عكس طريقة التعامل مع أحداث أوكرانيا أو الحرب في غزة. أصبح 20 مليون شخص (أكثر من سكان غزة بعشر مرات) معرّضين للمجاعة في مناطق متنوعة من السودان.
تُعتبر منشورات الرئيس الأميركي جو بايدن في شأن غزة والسودان على مواقع التواصل الاجتماعي مؤشراً آخر على اختلاف مستوى الاهتمام بالصراعَين. غرّد بايدن عن إسرائيل أو غزة 107 مرات على الأقل خلال الأشهر الستة التي تلت هجوم 7 تشرين الأول 2023. لكن منذ بدء الحرب في السودان قبل أكثر من سنة، اقتصرت منشوراته عن هذا الصراع على 4 تغريدات وتتعلق 3 منها بإخلاء السفارة الأميركية في الخرطوم بعد اندلاع القتال مباشرةً.
أصبحت منظمات الإغاثة بأمسّ الحاجة إلى الموارد لمعالجة الأزمة الإنسانية الناجمة عن الحرب. في شباط الماضي، حذرت منظمة «أطباء بلا حدود» من موت طفلٍ واحد كل ساعتَين بسبب سوء التغذية في أحد مخيّمات اللاجئين في شمال دارفور. وفي الذكرى الأولى لبداية الصراع في شهر نيسان، أعلنت منظمات الإغاثة أن نسبة تمويل خطة الاستجابة الإنسانية الدولية الرامية إلى مساعدة السودانيين اقتصرت على 6 في المئة. وفي إطار مؤتمر المانحين في باريس خلال الشهر نفسه، تعهدت الدول بتقديم مساعدات إضافية بقيمة مليارَي دولار، لكن يبقى هذا المبلغ نصف ما يحتاج إليه البلد بحسب تقديرات منظمات الإغاثة.
عيّن بايدن مبعوثاً خاصاً إلى السودان في شباط الماضي: إنه توم بيرييلو، نائب أميركي سابق من فرجينيا ومسؤول مخضرم في وزارة الخارجية الأميركية. شجّع معظم الخبراء حملة بيرييلو الجديدة لعقد محادثات حول وقف إطلاق النار خلال الأشهر اللاحقة وإشراك المشرّعين الأميركيين في هذه الجهود للاستفادة من نفوذ الولايات المتحدة والتمويل الأميركي لصالح السودان، لكنهم يخشون أن تكون جهوده ضعيفة أو متأخرة بالنسبة إلى المدنيين العالقين في مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور ومحور القتال راهناً.
يحمل المسؤولون الديبلوماسيون وعمال الإغاثة الناشطون في السودان بعض النظريات لتفسير سبب تجاهل الأعمال الوحشية الحاصلة في دارفور ومعظم مناطق البلد، مقارنةً بما حصل منذ 18 سنة، لكن لا تطرح أي نظرية منها جواباً متكاملاً.
في العام 2006، كانت الولايات المتحدة لا تزال تتجه نحو ذروة حملة «الحرب على الإرهاب» بعد هجوم 11 أيلول. كان الديكتاتور السابق عمر البشير يحكم السودان حينها، وأصبح البلد ملاذاً آمناً لأسامة بن لادن الذي راح يطوّر شبكة إرهاب عالمية تابعة لتنظيم «القاعدة». برأي نيكول ويدرشيم، مسؤولة سابقة في مجلس الأمن القومي تعمل راهناً في منظمة «هيومن رايتس ووتش»، «كانت مهاجمة البشير والإبادة الجماعية المرتكبة في دارفور تتماشى حينها مع أولويات مكافحة الإرهاب التي حدّدتها الحكومة الأميركية».
كانت ذكريات التدخلات الدولية الفاشلة والناجحة لوقف الإبادة الجماعية (رواندا في العام 1994 والبلقان في مرحلة لاحقة من ذلك العقد) لا تزال جديدة نسبياً في عقول صانعي السياسة. وكانت الحملات الغربية المكلفة في أفغانستان، والعراق، وليبيا، لا تزال مستمرة، وهي كشفت النقاب لاحقاً عن إخفاقات التدخلات العسكرية وتداعياتها السلبية. كذلك، سبقت تلك الحقبة المنافسة الراهنة بين القوى العظمى، حيث تُركّز واشنطن بشكلٍ أساسي على التصدي لروسيا والصين. في الوقت نفسه، يتنافس السودان على الموارد الإنسانية والاهتمام الدولي مع الحروب المستمرة في غزة وأوكرانيا. يظن آخرون أن العنصرية الراسخة في السياسة الخارجية الغربية تؤثر على الوضع أيضاً.
توضح ويدرشيم: «دائماً ما تجذب أحداث غزة اهتمام الرأي العام الأميركي المحدود بالأزمات الخارجية، لكن يجب الاعتراف أيضاً بغياب أي نشاطات أو مشاركات علنية على صلة بالسودان قبل بدء الحرب بين إسرائيل وحركة حماس».
يظن الخبراء أن حالة الحرب المستمرة راهناً تنجم عن غياب الاهتمام بالسودان في أوساط كبار المسؤولين داخل البيت الأبيض وفي دول غربية أخرى كانت لتنجح في الضغط على الأطراف المتناحرة في السودان وتدفعها إلى المشاركة في محادثات سلام.
إستضاف بايدن رئيس كينيا ويليام روتو خلال زيارته الرسمية في أيّار، فدعا الرئيسان «الأطراف المتناحرة في السودان إلى تسهيل مرور المساعدات الإنسانية ووقف إطلاق النار فوراً» في نهاية بيان مشترك طويل، لكنهما لم يستفيضا في التكلم عن هذا الملف. في المقابل، أطلقت مديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية سامانثا باور، والسفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد، دعوة صريحة إلى إنهاء الصراع في السودان.
على صعيد آخر، فشلت محادثات متلاحقة حول وقف إطلاق النار في مدينة جدة السعودية خلال السنة الماضية، بوساطة من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، في التوصل إلى أي اتفاق دائم. لكن لم يُكلَّف مسؤول بارز من البيت الأبيض أو وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بقيادة تلك المحادثات وتمثيل الجانب الأميركي، بل استلمت مساعِدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية مولي في، هذه المهمّة.
في غضون ذلك، يقول عدد من المسؤولين والمساعدين في الكونغرس (رفضوا الإفصاح عن أسمائهم لمناقشة تحركات الإدارة الداخلية) إن جهوداً أخرى بُذِلت وراء الكواليس من جانب بعض أعضاء الكونغرس في كانون الأول 2023، لكنها فشلت في تعيين مبعوث رئاسي خاص في السودان لنقل الأحداث إلى البيت الأبيض مباشرةً بدل أن ينقل مبعوث عادي تقاريره إلى مساعد وزير الخارجية. تم تعيين بيرييلو بعد شهرَين.
قال بيرييلو في منتصف نيسان إن محادثات وقف إطلاق النار قد تتجدد في جدة «خلال الأسابيع الثلاثة المقبلة»، لكنها لم تبدأ حتى الآن.
لطالما كانت نتائج محادثات وقف إطلاق النار محدودة في الماضي، كما حصل عندما نجحت الولايات المتحدة في إقناع الطرفَين بوقف القتال لفترة وجيزة في الخرطوم كي تتمكن من إخلاء سفارتها في نيسان 2023. تقول المحللة السياسية السودانية خلود خير: «يمكن تحقيق الهدف المنشود عند فرض الضغوط المناسبة في الوقت المناسب لدفع قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية إلى وقف القتال. لكن اختار المجتمع الدولي بكل بساطة ألا يستعمل المستوى نفسه من الضغوط هذه المرة».
إنشغل بيرييلو في الفترة الأخيرة بجهود ديبلوماسية مكثفة، لكنه عبّر علناً عن دهشته بتراجع الاهتمام بمظاهر الصراع والموت في السودان على الساحة الدولية.
قال بيرييلو أثناء جلسة استماع في الكونغرس أمام لجنة العلاقات الخارجية المؤلفة من 21 عضواً في مجلس الشيوخ خلال أيار: «أنا أعتبر غياب سجل جدير بالثقة عن حصيلة القتلى من أبرز المسائل التي تُعبّر عن هذه الحرب المريعة وغير المرئية. نحن لا نعرف عدد القتلى الحقيقي. كان هذا الرقم يتراوح سابقاً بين 15 ألف و30 ألف شخص، ويظن البعض أنه يصل إلى 150 ألفاً». خلال جلسة الاستماع إليه، خرج معظم أعضاء مجلس الشيوخ من القاعة بسبب تضارب جداول أعمالهم، فلم يبقَ هناك سوى سيناتور واحد وعشرين مقعداً فارغاً.