ماكسيميليان بوب

أردوغان يجازف بحرب مع اليونان

29 آب 2020

المصدر: DER SPIEGEL

02 : 10

يريد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إعادة ترسيم الحدود الوطنية في منطقة البحر الأبيض المتوسط ويمعن في تهميش البلدان المجاورة. في الوقت نفسه، تقوم تركيا واليونان المنتسبتان إلى حلف الناتو بحشد قواتهما البحرية ضد بعضهما.

في حزيران 2006، طرح جيم غوردينيز، رئيس فريق التخطيط في البحرية التركية، مفهوماً في مجال السياسة الخارجية لم يهتم به الكثيرون حينها لأنه بدا جريئاً وعدائياً أكثر من اللزوم. دعا غوردينيز، في خطابٍ ألقاه في أنقرة، إلى توسيع الوجود التركي في منطقة البحر الأبيض المتوسط وأعلن أن الحكومة تحتاج إلى إعادة ترسيم حدودها وحمل الأسلحة عند الحاجة لتأمين مصالح البلد الاقتصادية والسياسية. لقد سمّى خطته "مافي فاتان" أو "الوطن الأزرق" وقال في مقابلة عبر "سكايب": "أردتُ أن تصبح تركيا قوة بحرية حقيقية".

لم يأخذ المسؤولون في أنقرة ذلك الاقتراح على محمل الجد في تلك الفترة لأن تركيا كانت لا تزال تحاول الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي. كان رجب طيب أردوغان حينها رئيس الوزراء قبل أن يصبح رئيس البلاد منذ ذلك الحين، ولم يكن يهتم بخوض نزاع إقليمي مع دول مجاورة مثل اليونان.

أُعيقت مسيرة غوردينيز المهنية فجأةً عند اعتقاله في العام 2011، على غرار مئات المسؤولين الآخرين. كان غوردينيز يجاهر بتأييده لمبادئ مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا المعاصرة، ولطالما شعر بأنه ملتزم بإرثه العلماني أكثر من حُكم أردوغان الإسلامي المحافظ. لم يكن أردوغان ليستفيد من هؤلاء الأشخاص. أمضى غوردينيز، رغم براءته، ثلاث سنوات ونصف في سجن "سيليفري" الخاضع لحراسة مشددة بالقرب من اسطنبول قبل إعادة تأهيله.

لكن غيّرت تركيا وجهة سياستها الخارجية منذ ذلك الحين وتخلى أردوغان عن مساعي الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي وها هو يسلك اليوم مساراً أكثر قومية. حتى أن الحكومة أعادت اكتشاف خطة غوردينيز القديمة.

جعل أردوغان منطقة شرق المتوسط محور مناوراته لتوسيع نفوذه الجيوسياسي. بدأ الرئيس ووزير الخارجية والحزب اليميني المتطرف الذي يشاركه الحكم في حكومة الائتلاف يتكلمون فجأةً عن "الوطن الأزرق" علناً.

كذلك، تحوّل غوردينيز من عدو الدولة إلى مهندس السياسة الخارجية الحكومية، وهو واقع فاجأه أكثر مما أسعده، فقال: "الموضوع لا يتعلق بأردوغان بــل بمستقبل تركيا".

اليـــوم، تُحدد "معاهدة لوزان" من العـام 1923 شكل الأراضي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، لكن لم يعد أردوغان مستعداً لتقبّل شروطها. هو يزعم أن بلده لم يستفد من طريقة ترسيم الحدود.

عمدت تركيا واليونان معاً إلى حشد قواتهما البحرية في الأسابيع الأخيرة. لم يحتدم الوضع لهذه الدرجة في المنطقة منذ العام 1996، حين تواجهت السفن الحربية التركية واليونانية بسبب جزيرتَين غير مأهولتَين في بحر إيجه.

تبدو المشاكل الكامنة وراء هذا الصراع تقنية بطبيعتها لكنها لا تَقِلّ خطورة عن الصراعات الأخرى. تتمحور المسألة الأساسية حول حصة كل بلد من شرق المتوسط.





احتجاج تركي قوي

بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في العام 1982، تســـتطيع البلدان الفرديــــة أن تستعمل المواد الخام ضمن شعاع 200 ميل من جزرها داخل "منطقة اقتصادية خالصة".

تحتجّ الحكومة التركية على ذلك البند بقوة في الوقت الراهن لأن عدداً من الجزر اليونانية يقع على بُعد بضعة كيلومترات من الساحل التركي، كما أن حجم المنطقة الاقتصادية التركية الخالصة يبقى أصغر بكثير مما تريده أنقرة.

يمكن حل النزاع إذا وافق الطرفان على إحالة القضية إلى مؤسسة مستقلة مثل محكمة العدل الدولية في لاهاي أو هيئة تحكيم. يجب أن يوافق الفريقان على تقاسم المنطقة البحرية المتنازع عليها حتى صدور الحكم النهائي. لكنهما يصران حتى الآن على مطالبهما المتطرفة.

في تشرين الثاني الماضي، أعلن أردوغان عن دعمه لرئيس الوزراء الليبي فايز السراج في معركته ضد أمير الحرب خليفة حفتر. في المقابل، وافق السراج على عقد اتفاق مع تركيا ويقضي أحد بنوده بتوسيع المنطقة الاقتصادية التركية الخالصة إلى ما وراء جزيرة كريت اليونانية.

لكن لا تعترف اليونان ولا البلدان المجاورة الأخرى، بما في ذلك إسرائيل ومصر، بذلك الاتفاق. تفاوضت أثينا والقاهرة حول اتفاق آخر يتعارض مع المنطقة الاقتصادية التركية الخالصة في بداية شهر آب.

لكنّ أردوغان مُصرّ على المضي قدماً مهما حصل. منذ أسبوعين تقريباً، أرسل الرئيس التركي سفينة التنقيب "أوروتش ريس"، بمرافقة سفن حربية أخرى، باتجاه اليونان لإجراء مسوحات زلزالية مقابل جزيرة "كاستيلوريزو"، ثم أعلن بعد فترة قصيرة أنه يخطط أيضاً للبحث عن مواد خام قبالة سواحل قبرص.

قلق في أوروبا

إزاء هذا الوضع يشعر الأوروبيون بقلق شديد. أعلنت الحكومة اليونانية أن تصرفات أردوغان "تزعزع الاستقرار وتُهدد السلام". وغداة اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي قبل أسبوعين، دعا الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد، جوزيب بوريل، تركيا إلى وقف عمليات البحث عن الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط فوراً.

حتى أن الرئيس الفرنســـي إيمانويل ماكرون أرسل سفنه الحربية الخاصة إلى البحر المتوسط لإثبات دعمه لليونان واتّهم أنقرة عبر تغريدات باللغة اليونانية بزيادة التوتر في المنطقة بسبب تحرّكها أحادي الجانب.

يُعتبر الاهتمام بالغاز واحداً من مجموعة أسباب وراء هذه الأعمال العدائية المباشرة. في آخر عشر سنوات، اكتشف منقّبون رواسب من الغاز في شرق المتوسط تفوق الكمية السنوية المستهلكة في فرنسا راهناً بخمسين مرة.

لكن تقع رواسب الوقود الأحفوري في طبقات عميقة تحت السطح ويتطلب استغلال الاحتياطيات جهوداً شاقة. في غضون ذلك، انهارت أسعار النفط والغاز في السنوات الأخيرة، ما جعل عمليات الحفر لا تستحق الجهود المبذولة برأي الخبراء. ذكرت شركات مثل BP أسباباً اقتصادية لتبرير عدم تخطيطها لتطوير حقول جديدة في أي بلدان أخرى.





أردوغان يشعر بالتهميش


يبدو أن أردوغان يصرّ على تطبيق عقيدة "الوطن الأزرق" في مطلق الأحوال بدافع من الكبرياء المجروح والحسابات السياسية الداخلية. يشعر الرئيس التركي بأنه يتعرض للتهميش في مشاريع استكشاف المواد الخام في البحر الأبيض المتوسط.

عندما تحالفت اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن وإيطاليا حديثاً لإنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، بقيت تركيا على الهامش. وفي تموز الماضي، وافقت الحكومة الإسرائيلية على بناء خط أنابيب "إيست ميد" كي ينقل الغاز من المياه الإسرائيلية إلى أوروبا عن طريق قبرص واليونان رغم اعتراض تركيا.

في وقتٍ سابق من هذا الشهر، غرّد ماكس هوفمان، خبير في الشؤون التركية في "مركز التقدم الأميركي"، قائلاً: "حين يشعر أردوغان بأنه مستبعد، يعمد بشكل عام إلى قَلْب الطاولة على الجميع".

يشكّل الصراع في البحر الأبيض المتوسط أيضاً فرصة إيجابية كي ينشغل أردوغان عن مشاكله السياسية المحلية. يواجه الاقتصاد التركي أزمة كبيرة منذ سنوات وقد زاد وضعه سوءاً بسبب فيروس كورونا المستجد. كذلك، بلغت الليرة التركية أدنى مستوياتها تاريخياً، إذ يساوي اليورو الواحد حوالى 9 ليرات اليوم.

في الوقت نفسه، نادراً ما كانت نِسَب تأييد أردوغان منخفضة لهذه الدرجة في استطلاعات الرأي العام منذ وصوله إلى السلطة. حتى أن إعادة انتخابه في العام 2023 لم تعد مضمونة.

تسود خلافات بارزة في أوروبا حول طريقة التعامل مع الزعيم التركي الذي يزداد عدائية ويتخذ خطوات غير متوقعة. يدعو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحديداً إلى اتخاذ موقف أكثر صرامة منه. تتواجه باريس وأنقرة أصلاً في ليبيا حيث يدعم كل طرف معسكراً مختلفاً في الحرب الأهلية.

لم توقف الفرقاطة الفرنسية "كوربيه" سفينة شحن مع سفن حربية تركية في البحر الأبيض المتوسط قبل شهر حزيران الماضي، بعد الاشتباه بتهريبها الأسلحة إلى ليبيا بطريقة غير شرعية.

يزعم وزير الدفاع الفرنسي أن الأتراك وجّهوا رادار مكافحة الحرائق نحو الفرقاطة "كوربيه"، وهي مناورة تسبق إطلاق النار من الأسلحة في العادة. كل ما فعله الفرنسيون على الأرجح هو منع تصعيد الوضع عبر تغيير اتجاههم في اللحظة الأخيرة.

وســــاطــــة ألــــمــــانــــيــــة

تريد الحكومة الألمانية من جهتها أن تعيد أردوغان إلى طاولة المفاوضات. فشلت المحادثات بين أنقرة وأثينا، حيث لعبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل دور الوساطة، قبل أن تبدأ.

يوم الثلاثاء، سافر وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إلى المنطقة للعب دور الوساطة، فمرّ باليونان أولاً لزيارة رئيس الوزراء كيرياكوس ميتسوتاكيس ثم وزير الخارجية نيكوس ديندياس في أثينا. ثم خطط لمتابعة رحلته إلى أنقرة لمقابلة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو. قبل الانطلاق في هذه الرحلة الدبلوماسية المكوكية، قال هاس: "تركيا واليونان حليفتان لنا في الناتو. لا يمكن إيجاد حلول للنزاع على رواسب الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض المتوسط إلا على أساس القانون الدولي وعبر إطلاق حوار صادق بين الطرفين". سادت مخاوف كبرى في برلين من خروج الوضع في البحر الأبيض المتوسط عن السيطرة، حتى لو حصل ذلك نتيجة حادث عرضي. سبق وأوضح أردوغان أنه سيردّ حتماً على أي هجوم ضد السفن البحثية التركية. وفي اليونان، يدعو القوميون حكومة ميتسوتاكيس إلى عدم التنازل في النزاع القائم مع تركيا.

يقول مسؤولون في وزارة الخارجية الألمانية إن أحداً لا يحبذ نشوء صراع مسلّح بين اليونان وتركيا المنتسبتَين إلى حلف الناتو. لكنّ إقدام البلدين على حشد جيوشهما يزيد مخاطر اندلاع حرب في شرق البحر الأبيض المتوسط مع مرور كل يوم جديد.


MISS 3