يُفترَض بهذا البحث أن يَطرح سؤالاً واحداً إستراتيجياً هو: هل يوجد في لبنان دولة؟
وذلك، انطلاقاً من استعراض مقوّمات الدولة، بالمفهوم العام المُعترَف به دولياً، وليس انطلاقاً من هرطقات يُحاول مُطلقوها، وبعضُهم عندنا، أن يقوّضوا المُعترَف به، بواسطة نمط من غَسل الأدمغة، ترهيباً أو ترغيباً أو بتحجيم مُضخّم لأداءٍ خاطئ مُغرِضٍ لبعض المتنفّذين الذين يمارسون السلطة على هواهم، مُغتالين بذلك حيثيةَ الدولة، وعناصرَ كيانها القانوني، والسياسي المنظّم.
بالرغم من التشعيب في مسألة مقوّمات الدولة، يتّفق الباحثون السوسيولوجيّون على أنّ الأركان الأساسية لكل دولة هي: الشعب والأرض والسلطة والسيادة. وهي عناصر غير قابلة للتحوير أو التحريف أو الإلغاء.
فالشعب هو المكوِّن الأساس للمجموعة الكيانية، منه تنبثق السلطات، ولمصلحته يتمّ اتّخاذ المواقف السياسية والوطنية والإستراتيجيّة. وعليه أن يُكوِّن رؤية واحدة للمواطنة يلتزم بها، قوامُها الإنتماء والولاء، وهذا يعني أن يكون الشعب من خامة وطنيّة. من هنا ينبغي أن يتمتّع الشعب بالقدرة على تحقيق تكامله من دون عوائق، من خلال عقد إجتماعي جامع تحترمه شرائح النّسيج كلّها. أمّا واقع الشعب في لبنان فلا يُفهم إلاّ في أطار الطائفة أو الحزب أو العشيرة، أي في المعنى «التَّبَعي»، وليس في المعنى الوطني البحت وذلك، بِسَبَبِ غيابٍ مطلقٍ لدور الدولة في التثقيف المدني، والتربية الوطنية التي بها، وحدها، تُبنى الأوطان.
وهذا ما يحتّم تخلّفاً على مستوى الوعي العلائقي، بمعنى أنّ الرابط بين الشعب والدولة ينبغي أن يمرّ بالضرورة عبر الدّستور وكَمٍّ من القوانين التي تطبّقها المؤسّسات. وفي ظلّ غياب هذه الحيثية، راح كلّ زعيم يخاطب الشعب وكأنّه مالكٌ لشركة يعمل هذا الشعب لديها، وبخطاب تُحرّكه خلفيّة نفعيّة أو إيديولوجيّة، غالباً ما لا تتقاطع مع المصلحة الوطنية العليا. من هنا بات مُصطلح «الشعب»، عندنا، مُصطلحاً مائعاً، كونَه لم يرتبط ببُنية فكرية وطنية محدَّدَة وواحدة. واستناداً يُمكن القول إنّ بعض الشعب هو محسوبٌ على الوطن، وليس وطنياً.
أمّا الأرض، وهي مساحة الإستقرار، فلها مدلول مَكاني جغرافي، أي خارطة لها حدود، كما تتمتّع بمدلول وجداني هو البيئة الحاضنة الدائميّة التي تُشيع ارتياحاً داخلياً لدى الفرد، قوامُه الإرتباط والإنتماء. من هنا، تُفهَم الرابطة العُضوية التي تُحفِّز للدفاع عن هذه الأرض، ولو على كلّ شبر منها شهيد. ولمّا كانت الأرض بأبنائها، أصبحت الأرض مشروعاً يمتدّ على مساحة تاريخِ هؤلاءِ الأبناء. أمّا في لبنان، فالعلاقة بين الدولة والأرض هي، وبقراءة واقعيّة موضوعية، علاقة مُلتبِسة، لذلك، ينبغي أن تُمنَح نوعاً من الهدنة لوَضع شروط صُلح بينهما، أو اتفاقيّة مُلزِمة تَعترف الدولة، بموجبها، بوجود أرض، أرض لها، ولها وحدَها، لا ينازعُها أحد عليها أو يشاركها بها. وبهذا، يُنزَع فتيل العداء بين الدولة والـ10452 كلم مربّع، والتي تتصدّرُ واجهةَ بعضها الغيتوات والمربّعات الممنوعة على الدولة، والتي تمنح ولاءها لغير هذه الـ10452 كلم مربّع.
إنّ مصطلح السلطة، في علم الإجتماع السياسي، لا يعني علاقة قوّة بين طرفين، أو علاقة أَمريّة يَسودها الإجبار والإنصياع والإكراه ، بقدر ما هو نُفوذٌ مَشروعٌ لا يمكن أن يكون تَجمُّع إنساني من دونه. من هنا، كانت السلطة السياسية في الدولة أصليّة، لا تنبع من سلطات أخرى، ولا توجَد بينها وبين مواطنيها سلطات وسيطة، كما أنّها لا تخضع لسلطة تعلوها، أو لسلطاتٍ مُستَورَدَة، من خارج الحدود، تنافسُها في كيانها، وهذا يعني سلطة واحدة لها دستور واحد. ولمّا كانت السلطة تُستمَدّ من الشعب، والشعب جماعةٌ من الناس الأحرار، وَجَبَ ألاّ تكون السلطة رُبوبيّة أو أُلوهيّة ، تَمنح المتسلّطين حقّ «تفسيد» الدساتيرِ للعُبور إلى الظلم. أمّا في لبنان، فالسلطة ليست قوّة في خدمة أهدافٍ عليا، بل هي حالة قَهريّة تنتقمُ من المُمْتَثِلين لها، تعويضاً عن قُصورها وإِخفاقها في ترويضِ المُتَنَمِّرين بإِفراط، والمسلَّحين بفائض القوّة، والذين يُشكّلون سلطة بديلة أقوى ممّا يُسمّى دولة، وبالتالي، خارجة على طاعتها. من هنا، في لبنان، السلطة تُمثِّلُ دَورَ السلطة.
أمّا السيادة، فتعني امتلاك الدولة لأَحاديّة القرار، والإِمساك بالسلطة المُطلقة من دون شريك أو مُنافِس، في إدارة شؤونها الداخليّة، وفي علاقاتها الدولية. والسيادة لَصيقةٌ بالكرامة الوطنية، لأنّها تُجسّد معاني الحريّة والإستقلال وحقِّ تقرير المصير. والسيادة مُطلقَة شاملة حصريّة، لا تَقبل التجزئة، أو التنازلَ عنها، أو تَجييرها، لأنّ فقدانها يعني فقدان مُبرّر وجود الدولة بالذات. أمّا في لبنان، فالسيادة مُفَخَّخة، وهي بين أيدي مرجعيّات زعائميّة تَنتهِك مفاصلها، وتمنع الدولة عن إيفاء حقّ مواطنيها عليها، بتأمين الطمأنينة لهم والسلامة والأمن. لذا، غدت الدولة هيكلاً فارغاً يُمارِس وضعيّة التَمَلُّق لكي يَحظى ببعض المشاركة مع مَن انتزعَ الهيمنة بالقوة، وذلك في حدود المساحة المسموحِ بها. والسيادة في لبنان مُنهَكَة مُصطَنعة بِحكمِ انخراطِ الدولةِ في المَحاوِرِ، استناداً إلى مُعادلةٍ مرفوضة شرّعت أبواب الوطن أمام إنتهاكاتِ الإنتداباتِ الجديدةِ للأمنِ والسياسة. وبهذا تَآكَلَ مفهوم السيادة، وباتت الدولة حالةً مُسَرْطَنَة مصيرُها إلى رَميم.
بعد كلّ هذا، هل يوجدُ في لبنان دولة؟