تجهد محرّكات الديبلوماسية الأميركية في العمل على إنجاح «مقترح بايدن» لفرض هدنة في قطاع غزة، تُمهّد حال صمودها إلى وضع الحرب أوزارها، فيما وعدت واشنطن بتقديم عناصر رئيسية لخطّة «اليوم التالي» بعد انتهاء حرب غزة، في الأسابيع المقبلة. «اليوم التالي» للحرب ذو بُعدَين: الأوّل محلّي متعلّق بكيفية إدارة الحكم والأمن وإعادة الإعمار في القطاع المنكوب، وهو ما أشار إليه بلينكن في الدوحة الأربعاء، والثاني إقليمي يتّصل بإطلاق «عجلة التطبيع» بين إسرائيل ودول المنطقة، ولا سيّما السعودية.
توصّلت واشنطن والرياض إلى صيغة «شبه نهائية» للاتفاقات الاستراتيجية بين البلدَين التي ستُعمّق العلاقة بينهما وتُحصّنها سياسيّاً ودفاعيّاً وأمنيّاً. ستُحقّق المملكة مكاسب جيوسياسية بالغة الأهمية من هذه الاتفاقات، وستؤمّن «مظلّة حماية» أميركية بتوقيع اتفاق دفاع مشترك يصونها من أي اعتداء تتعرّض له، إضافةً إلى حصولها على المساعدة التقنية اللازمة لإنتاج الطاقة النووية.
واشنطن مستعدّة لتوقيع هذه الاتفاقات ووضعها حيّز التنفيذ حين تدقّ ساعة التطبيع بين السعودية وإسرائيل، لكنّ الرياض تشترط أوّلاً اتخاذ خطوات لا رجعة فيها تهدف إلى إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، لإعطاء «الضوء الأخضر» للتطبيع. وتطبيع المملكة مع إسرائيل إذا حصل، سيُضفي «شرعية إسلامية» على هذا المسار ويُعبّد الطريق سريعاً أمام دول أخرى لتحذو حذوها. على الرغم من أنّ المحادثات الأميركية - السعودية بلغت مرحلة متقدّمة للغاية تسبق مباشرةً إعلان الاتفاقات، إلّا أن استمرار حرب غزة ورفض الدولة العبرية «حلّ الدولتَين»، ما زالا العائق الرئيسي أمام تكليل جهودهما الدؤوبة بالنجاح.
صحيح أنّ عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأوّل 2023 فرملة التطبيع بين الرياض وتل أبيب، بيد أنّ الجهود الرامية لوضع مداميك النظام الإقليمي الجديد لم تتوقّف، ولو للحظة. وعلى الجبهة المقابلة، لم تقطع الجمهورية الإسلامية الإيرانية «شعرة معاوية» مع الولايات المتحدة الأميركية عبر الوسيط العُماني، بل تكثّفت حركة الوفود الإيرانية والأميركية في السلطنة خلال الأشهر الأخيرة، لإبقاء قنوات التواصل مفتوحة، ومنع توسّع حرب غزة وتحوّلها نزاعاً إقليميّاً شاملاً.
نجحت الجهود الديبلوماسية في منع التدهور الدراماتيكي للبيئة الأمنية في المنطقة حتّى كتابة هذه السطور، فيما تبقى كلّ الاحتمالات واردة، خصوصاً مع استِعار شدّة المواجهات بين الجيش الإسرائيلي و»حزب الله». و»المناخ العاصف» حاليّاً ليس مناسباً إطلاقاً لإبرام «صفقات تاريخية»، لكنّ اتفاقات السلام توقّع بين الأعداء في نهاية المطاف، ولو أنّ الكثير من الصراعات تَخمُد حيناً وتشتعل أحياناً أخرى، في انتظار «تسويات كبرى» قد لا تأتي أو «حرب حاسمة» قد لا تُقرع طبولها. تُعلّمنا عِبَر التاريخ دروساً منها أنّ بعض ما كان يُعتبر من المحرّمات في ما مضى، أصبح من المسلّمات حالياً. ووفق المنهج ذاته، ما يُعتبر اليوم من رابع المستحيلات، سيغدو من البديهيّات في المستقبل.
قد تُثمر الجهود لوقف حرب غزة بعد أسابيع، وقد تمتدّ الحرب أشهراً أخرى أو ربّما سنوات. قد تنجح الضغوط للحؤول دون تفجّر جبهات إقليمية أخرى، وقد تشرّع أبواب الجحيم على مصراعيها في المنطقة برمّتها. الثابت الوحيد أنّ كلّ القوى المتصارعة تُريد تعزيز وضعيّتها الاستراتيجية وتوسيع رقعة نفوذها الجيوسياسي في المنطقة، وضمان ما تعتبره «مصالحها الوجودية». قناعة تلك القوى ذات المصالح المتضاربة بأنّ تغيير «الموازين القائمة» مُمكن باستخدام القوّة العسكرية، تؤدّي إلى إطالة أمد النزاعات واستمرار اندلاعها مجدّداً بعد «تسويات التقاط الأنفاس».
«اليوم التالي» لحرب غزة يبقى ضبابيّاً في غياب «رؤية» واضحة قابلة للتطبيق على أرض الواقع حتّى الآن، وعلى الرغم من أنّ فرص التطبيع بين السعودية وإسرائيل مرتفعة، إلّا أنّ توقيت إعلانه مرتبط بظروف لم تنضج بعد. وإلى أن تحطّ الحرب رحالها وتوقَّع اتفاقات السلام، سيظلّ صوت «الحديد والنار» الأعلى في الميدان.