في رحلتنا التي لم تدم طويلاً مع «نداء الوطن» كان سقفنا دائماً بسقف الوطن، فقلنا ما قلناه بكلّ ثقة واقتدار وإصرار على التعبير عن ضمير اللبنانيين وعن تطلّعاتهم وحقائقهم البسيطة الرائعة التي لا تحتاج إلى تدبيج أو إطنابٍ أو تكلّف في الخطاب. فكانت كلماتنا تلامس نبض الناس وتنطق باسمهم حتى تحوّلت نداءً للوطن بكل معنى الكلمة، فهي النداء بقيام الدولة ورفض الدويلة، وهي النداء للعدالة ورفض الظلم وهي النداء للشراكة في وجه وحدة الإكراه ودولة القمع والخروج من عالم الحرّيات إلى غياهب سجون الأحادية القاهرة.
قلنا ما قلناه وكان هو القول الفصل في وجه جيوش الإعلام التي تحاصر نداء الحرية والمتمسّكين بمشروع الدولة، وهذه هي حقيقة الصراع، فغياب «نداء الوطن» ليس مجرّد غياب لصحيفة في عالم الإعلام، بل غياب لتوازنٍ نسبيّ في قلب مواجهة محتدمة، لم يبقَ من أعمدتها الكثير، بينما يتمتّع معسكر العداء للدولة بالمزيد من القوّة والنفوذ والمساحات الإعلامية التقليدية والتواصلية.
يكشف غياب «نداء الوطن» عجز من حملت أصواتهم عن حملها وسقوط الكثير من التنظير والأحلام وغياب الواقعية عن شرائح كبيرة تريد أن تتقدّم من دون أن تعمل، وتريد أن تنتصر من غير أن تبادر، وهذه حقيقةٌ يجب الوقوف عندها من دون مواربة ولا تجاهل، فتوقيت انتهاء هذا المسار الإعلامي المتميّز يثير الشبهات بقدر ما يثير الحزن والأسف، فهل يمكن أن نصدِّق أنّ أطياف هذا التيار السيادي لم تستطع حماية مشروع إعلاميّ نموذجيّ تمكّن من تحقيق أفضل طرق التعبير عن الشأن الوطني بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية؟
بعد هذا الغياب بـ»نداء الوطن» أخشى ألا يبقى في الإعلام من يخبر عن حقيقة ما يجري في لبنان، فستغيب عنه وقائع يريد الآخرون طمسها، ولن تحضر ملفات لطالما أرّقت الفاسدين ومن يحميهم، وستغادر لقطات السياسة بلحظتها الحسّاسة والدقيقة، ولن يكون للشأن الوطني بأبعاده السيادية والاستراتيجية نبضٌ يكفي ليسمعه العربُ والعالم، وهذه خسارة يصعب تعويضُها خاصة في هذه المرحلة التي لا تهدأ صراعاتُها ولا تسكتُ مدافعها السياسية والميدانية في لبنان والإقليم.
قلنا ما قلناه في «نداء الوطن» لأنّنا كنّا نعتبر أنّنا نخطّ وثائق المرحلة بكتاباتنا ونحوّل اللحظة إلى تاريخٍ معجون بكلّ عناصر الجهد والنضال والرجاء. فرغم توقّفها عن الصدور، ستبقى هذه التجربة مرجعاً مكتمل العناصر لإعطاء الحقيقة عن كل ما جرى هنا، في هذا البلد المحاصَر من داخله بقوى الانقلاب على الدولة والحياة.
ورغم جذريتها في تقديم رؤيتها الوطنية، غير أنّ «نداء الوطن» لم تقع في مستنقع الطائفية البشعة ولا في أفخاخ الاستدراج نحو ضرب الشراكة الإسلامية المسيحية، بل إنّ كلّ ما جرى من انقلابات على الدستور والشراكة، زادها تمسّكاً بالثوابت الوطنية، فبقيت طيلة فترة صدورها منبراً للوحدة الصادقة وللروح اللبنانية الأصيلة التي لا يقتلها تصحّر السياسة ولا غدر المكائد.
قلنا ما قلنا، ولو عدنا للبداية لأعدناه من جديد، فهو أفضل ما كان ممكناً في مرحلة يرتفع فيها مستوى الاضطراب في لبنان والمنطقة والعالم، ولا نرى لبنان إلّا كما تأسّس ولو سعى البعض لطمس هويته الحضارية الجامعة، فإنّ الوطن باقٍ ونداءه لن يزول.