نبيل بيهم

ولادات لبنان من رحم مـرفأ بيروت 1888 - 2020

1 أيلول 2020

02 : 00

في علم الأنتروبولوجيا، تعتبر الأسطورة صحيحة إلى حدّ ما، حيناً، وخاطئة في أحيان أخرى. بهذا المعنى، الأسطورة ليست خرافة لما لها من أثر في الواقع ومن تأويلات وترجمات عديدة. وما سنسعى إلى قوله هنا هو أنّ ولادة لبنان لم تكن يوماً نتاج فرد واحد أو إعلان واحد، بل محصّلة أفعال كثيرة ومتشعّبة، كما أنها لم تكن حدثاً واحداً أوحد، بل ولادات عدّة متواصلة.



1888

تشهد المحطة الأولى ثلاثة تحولات وضعت الأسس الاقتصادية والادارية وحتى الحياة اليومية لما سيعرف بلبنان. في تلك السنة أصبحت بيروت "الممتازة"، كما أطلق عليها في ذلك الوقت، عاصمة إدارية ما لم تكنه لذلك الحين. كما شرعت رساميل فرنسية بشراكة عائلات بيروتية ببناء مرفأ كبير وخط سكة حديد تتسلق الجبل وصولاً الى الشام. مما أسس مسار وحدة اقتصادية اذ فتحت باباً على العالم وعلى مدينة ليون بشكل خاص لكرخانات الحرير في الجبل والجنوب والشمال. كما فتحت الداخل اللبناني السوري وما أبعد على بضائع وابتكارات أوروبية، الى جانب ولادة اول جامعتين كانتا في ريادة بناء لبنان الحديث. هذه الفترة شهدت مثلاً إدارة اوهانس باشا التي عرفت بالعصر الذهبي الأول، ووضعت في كنف نهاية الحكم العثماني الأسس الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والإدارية للبنان ولم يبق سوى الإعلان السياسي عن ولادة لبنان الكبير.

1920

ليس عندنا ما نضيفه على حكاية إعلان لبنان سوى ترجمة مقتطفات من كلام غورو تناساه كثر لسوء الحظ. قال الرجل ما فحواه: "لبنان الكبير صنع للجميع. لم يُصنع ضّد أحد. هو وحدة سياسية وإدارية لا تشمل أي تقسيمات دينية إلا تلك التي توجه ضمائر كل الأفراد نحو اعتناقات وممارسات يعتبرونها مقدسة ولهذا يجب أن تحوز احترام الجميع".

ويقول قبلها: "وان كانت ارادتكم ان تكونوا شعباً كبيراً فهناك حقوق عليكم لا بدّ من املائها. ومنها الأول والأقدس: الوحدة فوق تنازع الديانات والأجناس التي هي مصدر ضعفكم".

1941-1944ما لم يذكره تاريخنا ان ولادة استقلال لبنان جاءت قبل بضعة أشهر بل قبل سنوات من الاعلان الرسمي. ففي خضمّ الحرب العالمية الثانية انهار وهج الأمبراطوريات الإنكليزية والفرنسية ما ادّى لاحقاً الى ذوبانها. ما يهمنا هنا هو صراع الجيش الفرنسي التابع لفيشي بإمرة الماريشال بيتان مع الجيش الفرنسي الحرّ بإمرة ديغول. خسر الطرفان ما بين سبعة آلاف وعشرة آلاف رجل انتهت باستلام الجيش الحرّ لبنان وسوريا مع حلفائه الأنكليز والهنود والأستراليين الذين كان لهم الدور الكبير في المعركة وانسحاب جيش فيشي الذي كان في عداده نفر كثير من السنغاليين والمغاربة. المهم في كلّ ذلك أن تلك المجابهات أضعفت فرنسا في سوريا ولبنان وزادت من قدرات نضال الوطنيين الاستقلاليين المدعومين دولياً فلم يبق لكاترو سوى اعلان استقلال لبنان وسوريا متمسكاً "بوحدة لبنان السياسية والجغرافية كوحدة غير قابلة للتقسيم وداعياً لشدّ أواصر اللحمة السياسية والثقافية والاقتصادية التي تربط الجماعات اللبنانية". ولم يكن لكاترو من قدرة وحنكة وتبصّر إلا الاعتراف بتوحد اللبنانيين على الارض مجتمعين مطالبين بالحرية معاً دون انقسام شرطاً للاستقلال وتأسيساً لولادة جديدة. لذا اتى استقلالنا أفضل من مـآسي مستعمرات فرنسية أخرى من مدغشقر الى فيتنام مروراً بالجزائر التي ذاقت الأمرّين.

1958

الولادة الرابعة أتت لا محالة على يد صانعي الدولة الشهابية على علاّتها في تقييد الحريات وتشديد الرقابة في ما كان يسمّى "عهد الدكتيلو". أرادت الشهابية بناء لبنان مثالي ولربما افلحت. إيديولوجيا الدولة واكبتها نظرة أخرى لتوازن الطوائف ولإعطاء أبعاد للمواطنة وللإنماء المتوازن بين المناطق. في تلك الفترة ولدت طبقة حاكمة جديدة من جيل من الإداريين الكفوئين والقضاة الصارمين والمهنيين الأخصائيين بامتياز كالأطباء والمهندسين وبعض الساسة المنزهين. لا يحسبن أحد أن تلك الفترة الذهبية كانت من دون شوائب لكنها حملت في طياتها وعداً بولادة جديدة للبنان قد نحلم به اليوم كمثال أعلى تجاه حثالة الطبقة السياسية الحالية وسقمها.

قد يسأل سائل كيف لم يبقَ من تلك التجربة سوى المطار الذي أضيف الى المرفأ ليزيد من مركزية بيروت ومن ثم دور لبنان التجاري في المنطقة؟ وأين اختفت تلك الخبرات الإدارية والفنّية والمهنية والأخلاقية ولم يبق منها سوى بعض المنكفئين عن السياسة بل عن العالم؟ لربما كان الجواب في حرب الـ67 التي قضت على الحياد الإيجابي الذي اعتمدته الشهابية تجاه محاور المنطقة مع مجاراتها الأكيدة للناصرية بحكم كونها من روّاد حركة عدم الانحياز العالمية آنذاك؟ او هو الطغيان الحديث بإطلاقه للرأسمالية المالية وايديولوجيا الكسب الفردي والجشع الريعي غير المنتج؟ الأكيد أن زمن البحث عن المصلحة العامة والدفاع عن المجتمع الواحد الموحد كان قد ولى عند أواسط السبعينات المشؤومة.

1990أتت فترة التسعينات كأنها فترة واعدة بولادة جديدة أقلّ ما يقال فيها انها بدأت باهرة وانتهت خافتة. فبعد حرب أهلية طويلة وتدخلات خارجية عديدة، استقرّ مشروع إعادة احياء الكيان اللبناني على ثلاثة رهانات. الأول، أنّ البلاد والشرق الاوسط على عتبة سلم شامل وكامل ستجعل من المنطقة أرض رخاء وثراء. الثاني ان لبنان، ولو لم يكن منتجاً للبترول سيعيش على ريع آت من بلاد الوفرة النفطية وجزء من هبات او ديون لا أفق لإعادتها يوماً. والثالث ان اعمار الحجر سيؤدي تلقائياً الى إعمار الانسان والمجتمع.

وبالرغم من إشاعة الأمل وفسحات النقاش الديموقراطي وبعث الثقة حول الأحوال المالية وتنشيط المضاربات العقارية وحركة التجارة وعودة السياحة، ما لبثت هذه المراهنات ان أعطت انطباعاً بالفشل. فشلت الرهانات لأن الرياح لم تأت بما تشتهيه السفن أي السياسة الشرق أوسطية، هذا ان ارتضينا ان نحافظ على لغة هادئة ووديعة. لكن ألم تكمن نقطة الضعف المحورية لهذه السياسة في الأموال المغدقة على زعماء الأمر الواقع لاستمالتهم أو اسكاتهم او تجنب شرّهم حتى ركدوا بعض الوقت، ثم بعد ان أكلوا الطعم، كما يقول المثل البيروتي، ما لبثوا ان انقضوا على اليد التي أطعمتهم؟

اثبتت هذه الرهانات الثلاثة فشلها قالبه سياسي اقتصادي- مالي وثقافي. وما يجمع بين معالجة هذه المستويات هو عدم جديتها وضعف استشرافها للوقائع وتعاليها كنظريات أصحاب الملايين على الاستماع الى ومناقشة وفهم كل الآخرين أكانوا مهنيين أو إداريين نزيهين أو حتى متمتعين بحس شعبي بسيط. مما جعلهم في فوقية الزهو بالتعامل مع كبار وحكام هذا العالم مستجدين منهم التوقير والقربى والحماية ولكن في عزلة عن الشعب الذي هو وحده من يحمي إذا عومل بالحق ومصدر التقدير اذا تم احترام حقوقه. وتشاطر الحكام، نسبة للشطارة اللبنانية الشهيرة، في نهب الآمال والأموال وسوء صرفها وهدرها حتى ثبت الرهان الرابع: لا مكان في هذا العالم إلا للثراء الفردي وتباً لثراء الوطن والشعب والجياع. حتى ذات يوم حين قضى قادة الإمبريالية المشرقية الجديدة على التجربة وأجهضوها بضربة واحدة مستمرة لم تنته بعد، عنوانها إراقة الدماء من السان جورج الى المرفأ.

2020

واليوم وبالعودة الى المرفأ الذي انطلقنا منه، وعن شروط عودته لبيروت وشروط عودة بيروت للبنان. حالنا يمكن تلخيصها باستمرار مظاهر حمل السلاح والتهديد والترهيب به. السلاح الحزبي ليس العنوان الوحيد للعنف، فهناك العنف اليومي في كل شاردة وواردة والعنف الأسري ضد النساء والأطفال والشارعي ضد المسنين والمعاقين وكل مستضعف وجرائم الشرف والانتقام، ولا حل آخر لكي يُحصر هذا العنف كله إلا بتطبيق المبدأ الأساسي في علم الاجتماع السياسي وهو وضع حد لانتشار السلاح بين الافراد واحتكاره الشرعي في يد الدولة. فلربما كان السبب الأول للمناداة بنزع السلاح هو كثرة العنف اليومي الاجتماعي، فعندما يستقوي فرد على آخر بالسلاح يفتح المجال لشعور الفرد ذاته كما الآخرين بعدم الأمان اليومي مما يرسي الأرضية لشعور جميع الجماعات غير المسلحة بخطر داهم لاستقواء جماعة على أخرى.

ولا ندعو اليوم الى تخطي خوف الجماعات والأفراد الحاملين للسلاح او غير الحاملين له. بل ندعو لضمانات دستورية ان لا غلبة لجماعة مسلحة او غير مسلحة على أخرى ولديانة على أخرى ولا لحزب ولا معتقدات على نظيراتها بل حماية باسم المواطنة للجميع، فالطمأنينة لجميع الطوائف والإنماء العادل لجميع المناطق. أصبح السلاح وازناً في الازمة الاقتصادية وعائقاً في الخروج من الازمة السياسية وسبباً مباشراً في تراجعنا الثقافي. لكن لن نستطيع تخطي هذه العقدة الا من خلال تطمين الجميع أن الغبن سيرفع وأمان الافراد والجماعات سيسود وان احترام الآخر وليس عنصرية الطوائف والطبقات هي الأساس لمستقبل عادل حتى لو بدا اليوم صعب المنال ولربما من المستحيلات. وإلا لماذا يحق لجماعة واحدة لوحدها الشعور بأنها تحمي نفسها في الوقت ذاته الذي تعرف ان هذا السلاح لا يحميها وان سمح لها بالتسلبط هنا وهناك، وان اعتقد البعض انه حقق لها في الماضي بعض المكاسب، إلا انه اصبح وزراً يعزلها ويكبحها ويهددها هي التي تحمله. وهي تعرف ملء اليقين ان لا شيء يحميها اكثر من التفاهم مع شركائها في وطن يعود الى الحوار الخلاق.

كيف نتخلص من حيتان المصارف ومن ذئاب النهب والسمسرة والتسلط بالعنف ومن العقليات العنصرية التي تميز بين طائفة وأخرى وبين امرأة ورجل وانسان معاق وضعيف وفقير وطفل ومسن من دون احتقار او اذلال او استقواء بل بالمساواة في الحقوق والواجبات؟ بمعنى آخر بالمواطنة.

لن يولد لبنان مجدداً الا على قاعدة ثلاثة إصلاحات متكاملة: الإصلاح الاقتصادي والمالي والإصلاح السياسي المؤسساتي والقانوني والإصلاح الاجتماعي. محور الإصلاح المالي هو حماية صغيري ومتوسطي المودعين وعدم تكليفهم وزر حل الازمة. والإصلاح الاقتصادي لن يتم بالشحاذة بل بتنويع انماط الإنتاج للتوصل الى الاقتراب من بعض نواحي الاكتفاء وبعض التصدير. أما الإصلاح المؤسساتي والسياسي فقوامه معروف واعداؤه أيضاً، فهم الرافضون لفصل الدين عن الدولة وتراجع الطوائف عن السياسة وقانون انتخابات يخفف من وطأة الطائفية السياسية ويفرض تغليب مبدأ المواطنة على مبدأ الانتماء الطائفي. أما الإصلاح الاجتماعي فهو الذي يعيد للدولة دور الحامي للمواطنين على الصعيد الامني والصحي والغذائي والتعليمي والبيئي. اصلاح يفرض التعليم الالزامي للجميع وخاصة الفتيات وتأمين الصحة لكل فرد مقيم وحماية الطبيعة التي كانت يوماً اكبر الثروات الجماعية حتى انتهشها جشع المضاربين والمستملكين زوراً. الدولة الحامية للمجتمع والفرد هي أساس الإصلاح الذي لن يستقيم مالياً واقتصادياً وسياسياً وادارياً ومؤسساتياً من دون إحياء الحماية الاجتماعية من الدولة لان هذه الحماية واجب أخلاقي وثقافي في هذا القرن ولأنها سياسياً سبيل فاعل لفك الانسان عن الطائفة وربطه بالوطن.

أما بعد، كم هو بعيد وطويل الطريق الذي سيؤدي بنا الى عالم هادئ ساكن مطمئن، عالم راحة البال.

هل هناك خيار آخر؟ عزمنا هو حياتنا. فليكن مرفأنا المستحدث القلب النابض لبيروت الجديدة ولأسطورة عارمة لإعادة ولادة لبنان وللتخلّي عن مفاهيم 1920 التي أدت بنا الى ما نحن عليه. ولنحتفظ من ناحية أخرى بالمفاهيم الإيجابية الكثيرة في محطات تاريخنا التي ستخرجنا يوماً لا محالة، وإن لم يكن في الغد القريب، إلى عصر ذهبي جديد.

MISS 3