د. عباس الحلبي

لبنان الكبير بين البقاء والفناء

1 أيلول 2020

02 : 00

يَحتَفِلُ اللبنانيّون باليوبيل المئوي لإعلان دولة لبنان الكبير، وفي قلوبهم غصّة على وطنٍ مُزِّقَ، وعاصِمةٍ فُجِّرَت، ودولةٍ فُكِّكت أوصالها، حتّى باتوا وكأنّهم في عدادِ المترقِّبينَ لجنازةٍ لم تصل بعد، يردّدون مع القدّيس أوغوسطينوس الفيلسوف ما قاله عن ابن صديقه، ليُعزّي قلبه: "كنّا نخشى عليه ما دام حيّاً، والآن وهو ميت، فهو لا يخاف أيّ موتٍ آخر". نعم! لقد شاخَ "الكبير" سريعاً وقد عُقِدَت الآمال عليه ليكونَ عمره من زمن لبنان، فإذا به فريسَةُ الوهنِ والمرض المشَخَّص بهشاشة التركيبة ومعطوبيّتها، وبسرطان الطائفيّة والإقطاعيّة، وبفقدان روحيّةِ الانتماء والهويّة. وأمام أنينِ الألم وسكراتِ الموت، يستوي المرء برهةً، معلِّلاً ومفكِّراً، عَلَّهُ يَستَنبِطُ جواباً حازِماً... فهل كانَت صيغة "لبنان الكبير" تجربةً فاشلة قادت الوطن إلى الهاوية؟ وهل سَيُشفى هذا الكبير من أمراضه وينهضُ من كبوته مُحلِّقاً كطائر الفينيق؟

يقول كمال جنبلاط في كتابه "هذه وصيّتي" بأنّ لبنان هو بلد أعظم تنوّعٍ ثقافي، ومردُّ ذلك بحسب فيليب حتّي ويوسف الحوراني في كتابيهما "تاريخ لبنان" و"لبنان في قيم تاريخه"، إلى طبيعته الموحشة ومغاوره المحصّنة التي جذبت منذ بدء العصور كل طالب عيش وحريّة، فبات مقصداً وملجأً لجماعاتٍ إثنيّةٍ وعرقيّةٍ ودينيّةٍ متعدّدة، مؤهِّلاً بفضل مساحته المتقاربة والمتنوّعة بين سهل وجبل لجمع خبرات هذا التباين في وحدة غنيّة من الثقافة الإنسانيّة. وبالتّالي فإنَّ صيغة "لبنان الكبير" التي وُلِدَت سنة 1920، وإنْ قضَت على مسيرةٍ تاريخيّة بين الموارنة والدّروز مُغيِّرَةً المعادلة السياسيّة إلى سنيّة - مارونيّة ومُكسِبَةً الوطن مساحةً وشعباً إِضافيَين، غير أنّها أَدَّت إلى قيام تعدديّةٍ حضاريّةٍ متنوِّعَةٍ داخل الدولة الجديدة، وحافظت على لبنان الحقيقي، "الوطن الرِّسالة" كما وصفه البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، و"الإبن البكر" للتّعايش السلميّ بين الإسلام والمسيحيّة بحسب الأب يواكيم مبارك.





فلبنان أكانَ كبيراً أم صغيراً بمساحته، يبقى وطن التعدديّة والشّراكة، وكُلُّ شذوذٍ عن هذا المبدأ هو مخالفةٌ جسيمة تقضي على كينونته، إذ قد نشأَ منذ عهد "الإمارتين" وحتّى "لبنان الحديث"، بحسب الأب ميشال الحايك في مقاله "لبنان في خطر الموت"، من ميثاقٍ غير مكتوب بين جماعاتٍ متعدِّدة قرَّرت أن تعيشَ معاً الحريّةَ والإستقلال من خلال المشاركة في "أفضل تقاليد الشّرق والغرب". ومع أنَّ الميثاق، بحسب الحايك، حُطَّ إلى مستوى عقد مساهمين، بسبب سياسة الأحزاب والأفكار الطائفيّة المسبَقَة وبسبب مصالح الجماعات، فهوَ لا يزال يُمَثِّلُ، في معناه العميق، رمزاً للشموليّة، ويُعَبِّر عن إرادة الحفاظ على كلِّ الثّقافات والإثنيّات والتّقاليد من طغيان العدد، ويُقَدِّم إطاراً وطنيّاً لاختبارِ غِنى الكائن التعدّدي: بين كاثوليك متأثّرين بنهجِ الغرب اللاتيني المدرسي (scolastique)، وأرثوذكس متّجهينَ نحو القسطنطينيّة وأثينا وروما الثّالثة أي موسكو، وبروتستانت يستلهمـــــون الفكر الأنكلوساكسوني، وشيعة منفتحين على إيران وبلاد فارس القديمة، وسُنَّة مُشبَعينَ من تقاليد الصّحراء ومدينة الإسلام الكبرى (انتهى الاستشهاد).

ضمن هذا السّياق، فإنَّ أي محاولةٍ لإلغاء الآخر الشّريك أو للتفرُّد بالقرار وبالحكم هوَ نقضٌ للميثاق الوطني وللدّستور اللبناني، وطعنٌ مميت في جسدِ هذا الكبير الّذي ما زالَ يُناضِل ويُصارع في سبيل الديمومة والبقاء. لا أَنفي أنّ "لبنان الكبير" وُلِدَ هزيلاً، خلال عمليّةٍ مؤلمةٍ، من والدَين مختَلفَين بسبب تنافر الطِّباع، وضعيفاً بســبب ثِقلِ الإرثِ العثمانـي، وكانَ غير محبوبٍ، عند ولادته، سواءٌ في أبنائه أو في وسط جيرانه، فتحمّل كلَّ التجارب مجتمعةً من داخليّة وخارجيّة. وقد تمثّلت هذه التجارب، بهشاشة الضّمير الوطني وبهاجس الاعتماد على الرعاية والتدخّل الخارجيين، وبيقظة التضامن الطائفي والتباينات الإجتماعيّة، وبحروب فلسطين وصعود الناصريّة، وبالإنقلابات المتتالية في المنطقة ومآسي إزالة الإستعمار وبروز إيديولوجيّاتٍ من خارج المنطقة (méta-nationales)، ونزاعات الآخرين على أرضه وسيطرتهم على مقوّماته وحدوده.

بيدَ أنّه، بالرُّغم من التناقضات والاضطرابات والصّراعات الداخليّة والخارجيّة وتقصير الدولة وعدم تبصُّرها، لا بل تفكِّكها أحياناً، تمكَّن هذا الكبير من التعايش مع ذاته ومع الآخرين، ومن السّعي الدّائم للتفوّق والإزدهار المتمثِّل بثباته الإقتصـــادي ونموّه الإجتماعي وتقاليده الديموقراطيّة والليبراليّة ومشروعه الحضاري الّذي ذكَّر فيه مراراً وتكراراً كلٌّ من رينيه ماهي (René Maheu) أستاذ الفلسفة والمدير العام للأونيسكو بين السنوات 1962 و1974، وكورت فالدهايم (Kurt Waldheim) أمين عام الأُمم المتحدّة بين السنوات 1972 و1981.





الآن، وبعدَ مئةِ عامٍ، يَقِفُ هذا الكبير بقلقٍ على مفترقِ طرقٍ تحدِّد مصيره، فإمّا إلى البقاء أو إلى الفناء. وخطر الزّوال يكمن في ما نشهده حالياً من تأزُّمٍ سياسيٍّ نتيجة محاولة استقواء فريقٍ على آخر، وتهميش فئةٍ على حساب أخرى، وقيامِ دويلاتٍ متعدِّدة تمتلك سلاحاً غيرَ شرعيٍّ، إلى جانبِ انهيار منظومة الدّولة الإداريّة والاقتصاديّة والأمنيّة والقضائيّة، وتفشّي الفســـــــاد والرّشــــوة والفوضى واللامســـؤوليّة، حتى بات لبنان صورةً حيّةً عن بلدٍ هشٍّ ضعيف تُمَزِّقُهُ صراعات الأُمم ونفوذها. أمّا طريق الديمومــة فتبقى بالرّجوعِ إلى دنيانا، أيّ إلى روحيّة هذا الوطن الكامنة بالوفاق والشّراكة.

مؤسِفٌ الخطاب الآنيّ للسّياسيين ولأقطاب الطّوائف والقائمين عليها، والّذي يُعطي صورةً عمّا وصل إليه "لبنان الكبير" من تشرذُمٍ وضياع وتشتّت، وكأنَّ هؤلاء قد نَسوا أو تناسوا أنَّ لبنان الدولة والكيان يقوم على صيغة حياةٍ مشتركة، وهي صيغةٌ وفاقيّةٌ إنسانيّةٌ تَوَحَّد حولها اللبنانيّون بعائلاتهم الروحيّة المختلفة، وتجلّت في الميثاق الوطني سنة 1943 وفي وثيقة الوفاق الوطني (الطّائف) سنة 1989، وتجسّدت في دستور الجمهوريّة اللبنانيّة سنة 1990، الّذي نصّ في مقدّمته على أن "لا شرعيّة لأيّ سلطةٍ تناقض ميثاق العيش المشترك". فاتِّفاق الطّائف الّذي نجحَ في إنهاء النّزاعات المسلّحة وفي فتحِ صفحةٍ جديدةٍ من تاريخ لبنان، يظلّ المرجع الأنسب لبقاء الوطن واستمراريّته.

وبالتّالي تبرز الحاجة إلى تطبيق بنود الدّستور اللبناني المنبثق من هذا الاتِّفاق والّذي يَنُصُّ على حلِّ الميليشيات ونزع سلاحها وعلى تطبيق القرارات الدوليّة وعلى التمسُّك بالمبادئ العشرة لوثيقة الاتِّفاق الوطني. فتفعيل الدّستور بما يحوي من بنودٍ ومن مقرّرات مؤتمر الطّائف هو الضمان الوحيد لإعادة الحياة لصيغة "لبنان الكبير"، لأنَّهُ يُفسح في المجال أمام كل المواطنين لتحقيق ذاتهم في تنوّعٍ أصيلٍ وتكاملٍ متجانسٍ بين بعضهم، في إطار دولة القانون الواحد، ويُعيدُ التّوازن في الحياة السياسيّة الوطنيّة، وذلك على المستويات كافة بدءاً من إعداد القرار حتى تنفيذه. لكن المشكلة تكمن في غياب القطب الوطني الجامع الّذي سيدعو إلى "كلمةِ سواء" في حوارٍ لبنانيٍّ - لبنانيٍّ، يُعيد اللحمة والوفاق بين اللبنانيين.

"كانت المغامرة تستحقّ المحاولة" قال كمال جنبلاط، و"لا يُمكن الاغتسال مرّتين في النَّهر عينه" عَلَّمَ الفيلسوف اليوناني القديم، فغامرنا وما زلنا طوال مئةِ سنةٍ لبناء الدّولة التي يَطمَحُ إليها كلّ مواطن والتي تتوافَقُ مع "لبنان الكبير"، وها نحن نفشل في سعينا المتكرِّر. قَدَّمنا للعالم أُمثولةً لا بأسَ فيها في الحوار الديني وفي العلاقات الإسلاميّة - المسيحيّة، وفشلنا في تجسيد هذا العيش في بناء دولتنا وحسن تدبيرها. فالصّيغة اللبنانيّة ينقصها التكافل والتكاتف قلباً وروحاً، وشفاءٌ من سرطان الطائفيّة ومن التبعيّة للخارج لـ"نعبر من الواحد إلى الكثرة ومن الكثرة إلى الوحدة". فكيفَ نَتوقُ إلى مؤتمرٍ تأسيسيّ وإلى دولةٍ حديثة مدنيّة ونحن غرباء عن ميثاقنا الوفاقي وعن دستورنا الوطني؟

يعيشُ "لبنان الكبير" ويستمرّ إِنْ عادَ إلى أصالتِهِ في التعدديّة الدينيّة وفي العيش المشترك ووظّفها في مشروع بناء الدّولة المدنيّة أو دولة المواطَنة الجامعة، وهي المشروع الوحيد القابل للحياة، بكونها ستقوم على الحريّة والعدالة والمساواة، وليس على الاستقواء والإقصاء والغلبة والأحاديّة والهيمنة... ويموتُ "لبنان الكبير" إذا استمرَّ في انقساماته الباحثة عن هويّاتٍ غريبة عن كينونته وعن ثقافته.

* قاضٍ سابق، رئيس لجنة الثقافة في الاونيسكو، رئيس الفريق العربي للحوار الاسلامي ـ المسيحي

"لا يُمكِنُ الاغتِسَالُ مرَّتين في النَّهرِ عينِه..." (هيراقليطس)


MISS 3