بول طبر

لبناء المواطَنة والديموقراطيّة

1 أيلول 2020

02 : 00

سيبتا

مرور مئة سنة على نشوء لبنان الكبير (العام 1920) يتطلب العديد من المهام المتوجبة على الجميع، وعلى رأسهم، المعنيون فعلاً بمستقبله كشعب وككيان سياسي مستقل وذي سيادة. وليس المجال متاحاً لتسمية هذه المهام وطرحها على بساط النقاش. في هذه المقالة، سأتناول جانباً سياسياً واحداً، يتعلق بالأسس السياسية - القانونية التي نشأ عليها الكيان اللبناني وما آلت إليه في الوقت الحاضر. لا شك أن لحظة التأسيس كحصيلة لمسارات محلية ودولية، كانت لحظة نزاعية لها جذور غير متجانسة ومتناقضة، تغلّب فيها خيار "الطائفية السياسية" كأساس سياسي - قانوني لولادة "لبنان الكبير". باشر روّاد هذا الخيار، أي "المارونية السياسية"، باستتباع (بالمعنى الخلدوني) للجماعات التي وجدت نفسها من ضمن حدود لبنان الكبير المستحدث. وعليه بدأت تلك الجماعات بصياغة نفسها سياسياً (واجتماعياً وثقافياً وحتى إقتصادياً)، وبصورة متفاوتة، على منوال "الطائفية السياسية" الأصلية والأصيلة. وبدأت كل طائفة في لبنان تصوغ هويتها السياسية الخاصة بها لـ "تعلن" ولادة "الدرزية السياسية" و"السنية السياسية" و"الشـــــيعية السياسية" بأوقات ومراحل مختلفة من تاريخ لبنان الحديث، وحسب الظروف وبناء على الاندماج المتفاوت زمنياً لابناء تلك الجماعات في النظام الإقتصادي السائد والمحكوم بمصالح الفئة الإقتصادية المسيحية لغاية نهاية الحرب الأهلية العام 1989. ومع استكمال تجميع عناصر القوة (السياسية والإجتماعية والإقتصادية والخارجية)، بدأت كل طائفة بمغادرة موقعها "المستتْبَع" تدريجياً إلى أن أصبح في لبنان ثلاث "طائفيات سياسية" أساسية (المارونية والسنية والشيعية). وهنا يجب التنبيه الى أن "الدرزية السياسية" قديمة قدم "المارونية السياسية"، مع فارق أن قوتها السياسية في السياق اللبناني كانت تستمد، إما من استنادها إلى أحزاب وتيارات عابرة للطوائف، أو من تحالفها مع الطائفة/‏الطوائف المناهضة للطائفة الغالبة، بدل الطائفة السياسية المسيحية الواحدة ذات النواة المارونية (المارونية والسنية والشيعية). طائفيات تتشارك في نظام المناهبة وتتصارع عندما تطمح إلى تحسين حصتها الملازمة بالضرورة لتخفيض مقابل لحصة الآخر أو الآخرين.

بالمعنى السياسي، أقول إن المئة عام التي مضت على نشوء لبنان الكبير هي بمثابة نجاح لمسار تعميم "الطائفية السياسية" كصيغة للعمل السياسي في لبنان وسيادته على المشهد السياسي فيه. ونحن الآن، بدلاً من وقوفنا خلال تلك المرحلة في وجه هذا المسار السياسي والصراع ضده باطلاق مسار سياسي يقوم على المواطنة والمساواة أمام القانون وتعزيز الديموقراطية كنظام مساءلة ومراقبة وتداول للسلطة، انتظمنا وفق أصول ومعايير "الطائفية السياسية" كما تكونت مع نشوء لبنان الكبير، وأمسينا "طائفيات سياسية" أساسية وثانوية (بالمعنى السياسي والإقتصادي والإجتماعي) تمتلك ساحة العمل السياسي، وتسعى جهدها لوأد أي محاولة لبناء المواطنة والديموقراطية الحقة ونظام العدالة والمســـــــــاواة وعدم الإستغلال.

لقد انتصرت هذه "الطائفيات" حتى الآن على محاولتين جديتين باتجاه بناء لبنان المواطنة والعدالة الإجتماعية: المحاولة الأولى أتت "من فوق"، على يد الرئيس فؤاد شهاب. أما المحاولة الثانية، فكانت على يد أحزاب "الحركة الوطنية اللبنانية" والقوى الشعبية التي دعمتها ما بين عام 1969 و1976. في 17 تشرين الأول من العام 2019، تفجرت المحاولة الثالثة في وجه كل "الطائفيات السياسية" التي خلفتها الحرب الأهلية وأفولها مع اتفاق الطائف العام 1989 (من هنا شعار الإنتفاضة كان ولا يزال "كلن يعني كلن"). وكان الطابع القاعدي والشبكي والعابر للطوائف، طابعاً مميزاً لتلك الإنتفاضة. لكن الفئات الحاكمة بمختلف أجنحتها الطائفية لا تزال قادرة على المناورة والإمتناع للآن عن تقديم التنازلات باتجاه مطالب المنتفضين بالإصلاح وبناء دولة ديموقراطية وعادلة ودولة مواطنين. بالطبع، المواجهة مفتوحة ولم تنته بعد. والرهان لا يزال معقوداً على القوى السياسية لإنتفاضة تشرين للإلتحام مجدداً بجذورها الشعبية والتعبير عن مصالح جميع الفئات المتضررة من حكم زعماء الطوائف، ومنظومة "الطائفية السياســـية" بمختلف أجنحتها. نحن الآن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما تكريس إنتصار "المارونية السياسية" كصيغة للإنتظام والعمل السياسي في لبنان، أو النجاح في إطلاق مسار تغييره باتجاه بناء دولة المواطن والحرية والعدالة الإجتماعية. الخيار الأول يؤدي إلى التدمير الذاتي لـ"لبنان الكبير"، والخيار الثاني، إلى تعافيه وعبوره إلى مستقبل أفضل.

* إستاذ جامعي وباحث


MISS 3