عيسى مخلوف

مئة عام من العزلة!

1 أيلول 2020

02 : 00

تزداد الأسئلة بقدر ما تزداد الأزمات، وبعض الأسئلة جزء من المواجهة: أين لبنان اليوم بعد مئة عام من إعلان دولة لبنان الكبير؟

ما ميّز لبنان حتى الحرب الأهلية ليست المؤسّسات الإدارية والسياسية التي كانت تتخبّط في جمودها ووقوفها ضدّ التغيير، بل الحياة الثقافيّة التي حوّلت لبنان، وخصوصاً عاصمته بيروت، إلى ملتقى الأسئلة والأفكار واللغات، وإلى ساحة مفتوحة على الشرق والغرب، تتفاعل فيها الآداب والفنون التشكيليّة والموسيقى والمسرح التجريبي ضمن هامش من الحرّيّة سمح بتناول أفكار ومسائل عدّة منها موضوع الطائفيّة والعلمنة ونقـــد الفكر الديني.

لبنان الثقافي هو الذي صنع وَهج لبنان في محيطه العربي وفي الخارج، لكن القطيعة بين السياسة والثقافة عادت وانعكست على الثقافة نفسها وعلى الميدان التربوي أيضاً. في هذا الإطار، نشأت الحركات الطلابية التي عرفها لبنان عشيّة الحرب ومن أهدافها التأسيس لجامعة عصرية جديدة تقوم على مراكز علمية ومناهج حديثة ولا تكون أسيرة مصالح ضيّقة. إلاّ أنّ هذه الحركات اصطدمت من جديد بالواقع السياسي حين بدأ تهميش الكتّاب وملاحقة المفكّرين وتهديد الصحف ومحاربة الفكر الحرّ.

كان هاجس بعض التيارات الثقافيّة والسياسيّة آنذاك هو الابتعاد عن الدولة التيوقراطيّة من أجل تأسيس دولة ديمقراطيّة، وهذا هو أحد الأحلام التي جرفها طوفان الحرب. وحين هدأت المواجهات المسلّحة، استولى على السلطة أمراء الطوائف والميليشيات الذين لم يعملوا على إخراج لبنان من خطر الطائفيّة والانقسام الأهلي، بل، بخلاف ذلك، راحوا يعمّقون هذا الانقسام ويستعملون ضحاياه وقوداً له، داخل أوضاع سياسيّة إقليميّة هي بين الأكثر سخونة في العالم.

لم ينجُ أحد من هذا الواقع، حتّى الذين ظنّوا أنهم من الناجين حين خرجوا من الأرض الخراب ولم يعودوا. لم ننتبه إلى أنّ عمر الحرب قد يكون أطول من عمر البشر وأطول من عمر الحربين العالمّيتين معاً. فحربنا ليست من الحروب التي تبدأ وتنتهي، بل هي حالة متواصلة من جيل إلى جيل، حتّى في زمن السلم. ثمّ جاء من يفرض ثقافة العنف والقتل باسم حماية المواطنين من الاعتداءات الخارجية. والمدينة التي كانت إحدى أجمل مدن البحر الأبيض المتوسّط وأكثرها انفتاحاً، حوّلتها عصابة النهب الحاكمة مكبّاً للنفايات ومخزناً للمتفجّرات ودرعاً بشرياً، كأنّ القصد من ذلك كلّه هو إنهاك المدينة وتجريدها من خصوصيّتها الثقافية والاجتماعية.

لقد أصبح صاحب الرأي المختلف، غير المسلّح، مهدّداً من قبل الذين يحملون السلاح ويضعونه أمام احتمالين اثنين فقط، إمّا الصمت أو الموت. الاغتيال السياسي الذي طال مفكّرين وكتّاباً وإعلاميين في العقود الثلاثة الأخيرة وضع لبنان في دائرة الأنظمة التي لا تقبل الاختلاف، بل تلجأ إلى تصفية من يعارضها للتخلّص من أفكاره. غير أنّ القضاء على حرّيّة الرأي والتعبير ومحاربة الفكر النقدي هو القضاء على أيّ نهضة ممكنة وعلى أيّ تقدّم محتمل. وهو أيضاً، وأوّلاً، القضاء على فسحة الحرية التي تميّز بها لبنان ذات يوم وجعله ملاذاً للأحرار وملجأ للمضطهدين الهاربين من قمع دولهم وسجونها.

مع انفجار الرابع من آب، اكتمل مشهد مصادرة لبنان من طرف أولئك الذين يفرضون بالقوّة صورتهم وإيديولوجيّتهم وثقافتهم، تلك الثقافة التي تضيق ذرعاً بالاختلاف، ولذلك فهي عاجزة عن الحوار ولا تتحمّل النقد، لأنها أصلاً ثقافة دوغمائيّة منغلقة ولا تجد مرجعيّتها إلاّ في الأفكار الغيبيّة وفي الماضي.

مع هؤلاء، لا تنحصر خسارة لبنان في المستويين السياسي والاقتصادي، بل تطول جميع المجالات وخصوصاُ مجال الثقافة والمعرفة والإبداع، أي المجال الذي يجعل لبنان أكثر انتماء إلى العصر، وأكثر رحمة وجمالاً وإنسانيّة. لذلك لا قيامة تُرتجى مع بقاء الذين تسبّبوا في انفجار مرفأ بيروت في الحكم، فالحلول التي يقدّمونها لا يمكن أن تكون إلاّ تفجيرات جديدة، أو إفساح الطريق أمام من تقتضي مصلحته التفجير.

مئة عام من الاضطرابات والنزاعات. مئة عام من ولادة لم تكتمل ومن قوى داخليّة وخارجيّة تريد أن تعزل لبنان عن نفسه وعن العالم. ولبنان اليوم لبنانان: لبنان المافيا التي لا تستطيع أن تعيش إلاّ داخل المستنقع الطائفي وارتباطاته التي تفتحه على مزيد من العنف والحروب، ولبنان الذي يتوق إلى دولة مدنيّة علمانيّة حرّة، عبَّر عنها مئات الألوف من الشابات والشباب في السابع عشر من تشرين الأوّل. هؤلاء يعرفون أن لا شيء سيبقى من لبنان إذا تمّ القضاء على روحه الخلاّقة المبدعة وعلى توقه إلى الحرية وانفتاحه على الحداثة، أمّا الذين يتّهمونهم بالعمالة والرهانات الخارجية فهم أكثر المرتهنين بالخارج، والخراب الهائل الذي تركه هؤلاء يحتاج إلى إرادة تغيير هائلة يولد معها لبنان الجديد.


MISS 3