روبرت زاريتسكي

كاتدرائية "نوتردام"... بين تقليد وتجديد

4 أيلول 2020

المصدر: Foreign Policy

02 : 02

في 9 تموز، أصبح المشروع الذي بدا حتمياً طوال أشهر خبراً رسمياً: سيُعاد بناء كاتدرائية "نوتردام دو باري" التي التهمتها النيران لإرجاعها إلى الشكل الذي كانت عليه. أعلنت الحكومة أن جميع الخصائص القديمة ستظهر من جديد. سيتم استبدال العوارض المصنوعة من خشب السنديان والسقف الرصاصي بالمواد نفسها. والأهم من ذلك هو أن البرج الخشبي والرصاصي الشهير على علو 300 قدم سيُستبدل ببرج له المواصفات نفسها من حيث العلو والتصميم والمواد المستعملة.

تواجه فرنسا أزمة كبرى بسبب تفشي فيروس كورونا لكنها رحّبت بهذا الخبر وتنفست الصعداء أخيراً. فقد أعلنت وزيرة الثقافة الجديدة روزلين باشيلو عن وجود "إجماع عام وواسع" حول ضرورة استبدال البرج المدمّر بآخر مشابه له.

لكن طرح تصريح باشيلو سؤالاً جوهرياً: ما الذي حققه الإجماع يوماً للحفاظ على الثقافة؟ يحمل هذا السؤال أهمية كبرى في بلدٍ مثل فرنسا حيث تُعتبر الثقافة شكلاً آخر من السياسة دوماً. في ظل الظروف الراهنة، يمكن اعتبار قرار الحكومة بترميم كاتدرائية "نوتردام" كي تشبه ما كانت عليه موضوعاً محورياً أكثر مما يفترض الكثيرون.


وعد جريء

في 16 نيسان 2019، تصاعدت أعمدة الدخان من هيكل الكاتدرائية المتفحم وخاطب الرئيس إيمانويل ماكرون بلداً في حالة صدمة. في خطاب قصير وقوي، تعهد بإعادة بناء "نوتردام" خلال خمس سنوات وبجعلها "أجمل" مما كانت عليه. استنكر النقاد كلامه واعتبروه متهوراً، فتراجع عن موقفه واعترف في 24 أيار بأن قراره "لم يكن مبنياً على تحليل مفصّل أو خبرة مهنية"، لكنه أكد على التزامه الكامل بوعده الجريء. فأعلن عن إطلاق منافسة دولية بين المصممين لإعادة بناء الكاتدرائية، وتوقّع أن تعكس الخطة الفائزة "جرأة محترمة ومساراً مبتكراً للترميم وإعادة البناء، ما يعني الجمع بين التقاليد والحداثة".

شمل جزء كبير من العروض الأولية وغير الرسمية لإعادة بناء "نوتردام" جميع أنواع الابتكارات، بدءاً من المشاتل وصولاً إلى أحواض السباحة بدل السقف الرصاصي الأصلي، لكن عكست هذه الخيارات طلاقاً كاملاً بين الهيكل القديم والبنية الجديدة بدل الجمع بينهما. هذه الخطط غير الرسمية أثارت حفيظة التقليديين وسرعان ما تباطأت عملية تنظيم المنافسة الرسمية بين المصممين. في الوقت نفسه، دعت مجموعة متزايدة من الشخصيات السياسية والاحترافية إلى إعادة بناء الكاتدرائية بما يتطابق مع بنيتها في القرن التاسع عشر.

من الطبيعــي أن يشمل المعسكـر المؤيد للترميم الدقيق أحزاباً يمينية تتراوح بين حزب "الجمهوريين" الديغولي الجديد و"التجمع الوطني" المتطرف. على الجانب الآخر من الطيف السياسي، استنكر يانيك جادو، زعيم "حزب الخضر" الفرنسي، "الحنين الرجعي" الذي تحمله تلك الأحزاب إلى ماضٍ لم يحصل يوماً. عبّر وزير الثقافة الاشتراكي السابق جاك لانغ عن المخاوف نفسها وأصرّ على إمكانية إقامة توازن بين التقليد والتجديد.

حاول ماكرون اعتبار هذا الجدل المحتدم مؤشراً على سلامة الوضع السياسي فقال: "البلد الذي يستطيع التجادل حول شكل برج طوال أشهر متواصلة هو بلد لم يخسر وجهته". لكنه كان أقل تفاؤلاً عندما بدأ الجدل يتسلل إلى داخل حكومته. في شهر تشرين الثاني الماضي وجّه فيليب فيلنوف، كبير المهندسين المعماريين للمواقع التاريخية، إنذاراً أخيراً فأعلن عن استعداده للاستقالة كموقف احتجاجي إذا لم يؤيد الرئيس بناء برجٍ مشابه لما سبقه. كان جان لويس جورغلين الجنرال المتقاعد الذي كلّفه ماكرون بالإشراف على إعادة ترميم الكاتدرائية، وحين سمع ذلك التهديد قال بفظاظة إنه سبق وطلب من فيلنوف "أن يقفل فمه في مناسبات متكررة".

ورغم انتشار فيروس كورونا في بداية العام 2020، أصرّ ماكرون على مهلة الخمس سنوات لإعادة ترميم "نوتردام". لكن لم يعد موقفه حاسماً بالقدر نفسه حول خطة الترميم، فأعلن في نيسان الماضي: "لا أظن أن الفوضى والتأخير هما الرد المناسب على هذا التحدي. بل يجب أن نثبت قدرتنا على مضاهاة مشاريع البناء الضخمة التي يشتهر بها تاريخنا".لكن بعد مرور شهرين، اعترف ماكرون أخيراً بأن مشروع البناء العظيم سيكون عبارة عن خطة عظيمة لإعادة بناء الموقع. في ظل تصاعد العجز المالي وارتفاع أعداد الإصابات بفيروس كورونا بدرجة هائلة، فضّل الرئيس المقاربة العملية على الجرأة وأعلن عبر متحدث باسمه أن الفرنسيين سيحصلون على البرج الذي يطالبون به.


حالة المباني النهائية هي الأساس!

تزامناً مع احتدام هذا الجدل الوطني، برزت مفارقة واضحة: لم يعد البرج المدمّر أصلياً بل بدا أقرب إلى هوائي تلفاز مزروع في أعلى "نوتردام". لم يكن ذلك البرج من صنع فنانـــين مجهولين من حقبة القرون الوسطى في فرنسا، بل إنه من صنع مهندس معماري معروف في فرنسا المعاصرة واسمه يوجين فيوليه لو دوك. بفضل ذلك المهندس الحيوي والرومانسي والذكي من القرن التاسع عشر، أصبحت كاتدرائية "نوتردام" موقعاً يرى فيه العلمانيون ماضياً غير موجود، فيما يرى فيه أهل الاختصاص ماضياً لطالما كان جزءاً من مخيلة الناس.

تتعمق هذه المفارقة الساخرة عند التفكير بأن فيوليه لو دوك كان ليشارك ماكرون جرأته الأولية لو أنه حي اليوم. حين كُلّف هذا المهندس بإعادة ترميم "نوتردام"، لم يكن مُرمِّماً أو محافظاً في توجهاته بقدر ما كان مثالياً ومبدعاً. على غرار المؤرخ اليوناني ثيوسيديدز الذي أعاد ابتكار الخطابات بطرقٍ مُعدّلة لكن بالأسلوب المطلوب، رمّم فيوليه لو دوك المباني بالشكل المناسب بدل أن يعيدها إلى شكلها القديم. كان يقول: "إعادة ترميم المباني لا تعني إصلاحها أو تشييدها من جديد، بل إعادة تأهيلها لإيصالها إلى حالتها النهائية التي لا تشبه دوماً البنية الأصلية".

لا شك في أن فيوليه لو دوك واجه هجوماً من معاصريه باعتباره هادماً تبدو مشاريعه أقرب إلى الأعمال الشائبة. امتد هذا الهجوم حتى منتصف القرن العشرين، حين اعتبر المهندس المعماري المرموق والمؤرخ أشيل كارلييه مشاريع فيوليه لو دوك اغتيالاً للماضي على أقل تقدير ووصفه شخصياً بواحد "من أخطر المجرمين في التاريخ". لا يستثني هجوم كارلييه كاتدرائية "نوتردام" التي أُعيد ترميمها، بما في ذلك البرج وتفاصيل أخرى. عند التحديق بالكاتدرائية، دعا قراءه إلى "عدم التفكير بالقرن الثاني عشر أو الثالث عشر" بل "حصر تركيزهم بالمهندس فيوليه لو دوك لأن كاتدرائيته لا علاقة لها بالعصور الوسطى".

انتقد كارلييه البرج الذي صمّمه فيوليه لو دوك على وجه التحديد. خسرت الكاتدرائية برجها الأصلي الذي يعود إلى القرون الوسطى في أواخر القرن الثامن عشر. كان فيوليه لو دوك مقتنعاً بأن "نوتردام" لن تكون قابلة لإعادة الترميم بالكامل قبل استبدال البرج، فابتكر تصميمه بناءً على رسمة يُشكك الكثيرون بأصلها التاريخي. ثم أضاف عناصر جديدة، منها تماثيل الرسل الإثني عشر الصاعدة من الأسفل. زاد استياء كارلييه لأن أحد الرسل، وهو القديس توما، يشبه فيوليه لو دوك بشكلٍ لافت.

نَجَت معظم تماثيل الرسل من الحريق في العام 2019، لكن لا يعني قرار نسخ البرج أن الروحية التي وضعها فيوليه لو دوك في عمله قابلة للتكرار. هو كتب أن عصره كان جزءاً من "الأزمنة الغريبة التي تدعو اليائسين من الحاضر إلى مراجعة الماضي".

كانت تلك الحقبة غريبة فعلاً! عاصر فيوليه لو دوك الثورات في الأعوام 1830 و1848 و1871 وشهد على نشوء وسقوط الأشكال الملكية والديمقراطية والاستبدادية من الحُكم في فرنسا. ترافق ذلك الزمن مع تقلبات تكنولوجية واجتماعية ووبائية هائلة. قدّمت التقنيات الجديدة الوسائل المادية التي يحتاج إليها فيوليه لو دوك لبناء البرج. وأعطته الأمراض الجديدة، مثل الكوليرا التي اجتاحت فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر، الأساس الخيالي لمجموعات التماثيل المشوّهة والملتوية التي انتشرت في سقف الكاتدرائية من نوع الغرغول (مزراب حجري على شكل كائنات أسطورية قبيحة)، علماً أن جزءاً كبيراً منها لم يكن موجوداً في العصور الوسطى. وحتى أثناء إعادة ترميم "نوتردام"، تحوّل الفناء الشاسع أمام الكنيسة إلى عيادة في الهواء الطلق ومشرحة لضحايا الوباء.

اليوم، يمرّ الفرنسيون مجدداً بأوقات غريبة، بدءاً من حركة "السترات الصفراء" وصولاً إلى فيروس كورونا المستجد. كم هو غريب إذاً ألا يقرر القادة الفرنسيون التحلي بجرأة فيوليه لو دوك في بلدٍ لا يزال في طليعة الدول الرائدة بفضل مؤسساته الثقافية. يظن مؤرخ معماري أن بناء نسخة مطابقة من البرج السابق يوازي تعليق نسخٍ من لوحات محروقة في متحف اللوفر. لا يعني تجديد البناء إضافة تماثيل الغرغول المقنّعة (إنه قرار خاطئ من الناحيتَين الجمالية والعملية لأن هذه المنحوتات تُستعمل كمزراب للمطر)، لكن من الضروري في المقابل أن تعكس الكاتدرائية النيران التي كادت تدمّرها إذا أرادت إثارة حماس الزوار المستقبليين. سيتابع الزوار المجيء في حال إعادة بنائها بالأسلوب نفسه، لكنهم سيشعرون حتماً بوجود نقص كبير.