"اللعنة اللبنانية" لاحقت كل دولة احتلّت لبنان واضطهدت اللبنانيين، ولكن يبدو أنّ هذه اللعنة تصيب الشعب اللبناني نفسه العاجز عن هندسة وطن آمن ومستقر.
يقف لبنان، للمرّة الأولى منذ إعلان "لبنان الكبير"، على أبواب مرحلة جديدة تشكّل فرصة ذهبية للتخلُّص من اللعنة التاريخية بفعل ثلاثة عوامل أساسية:
العامل الأول خارجي، عانى لبنان تاريخيّاً من التدخلات الخارجية بشؤونه الداخلية وتحديداً السورية والإيرانية في العقود الخمسة الأخيرة. وبعد خروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005 حلّت "اللعنة اللبنانية" على النظام السوري فدخل في حرب داخلية قزّمت دوره وشلّته، وهو ينتظر منذ سنوات تسوية تُبقيه على قيد الحياة على جزء من سوريا، ما يعني أن القلق اللبناني التاريخي من التدخُّل السوري قد تبدّد حتى إشعار آخر.
ومع خروج التأثير السوري ارتفع منسوب التأثير الإيراني، علماً بأن لبنان خضع منذ عام 1990 لتقاسم نفوذ بين دمشق وطهران، وإحدى ترجماته إبقاء السلاح مع "حزب الله" خلافاً للدستور، وقد حلّت "اللعنة اللبنانية" نفسها على إيران، فأطاح "طوفان الأقصى" باستثماره كلّه في لبنان، والذي امتد لأربعة عقود أنفقت فيها مئات مليارات الدولارات من أجل أن يكون لها موطئ قدم على البحر الأبيض المتوسط وحدود إسرائيل، ولن تنتهي حرب الطوفان قبل أن ينتهي، بالحد الأدنى، دور إيران في غزّة ولبنان وسوريا، ومن دون استبعاد، في الحد الأقصى، سقوط النظام الإيراني، ومع انتهاء هذا الدور يصبح لبنان محيداً عن التدخلات في شؤونه بحكم الأمر الواقع وليس بحكم التوافق الداخلي على الحياد.
العامل الثاني داخلي، الشعب اللبناني ليس شعباً عظيماً، وهو على استعداد ليخرّب لبنان في اللحظة التي يطلّ فيها أحد المشاريع الخارجية برأسه، ومع نهاية دور محور الممانعة برأسيه السوري والإيراني، فإن المجموعات اللبنانية ستجد نفسها مضطرّة ومرغمة على التعاون، ما يعني دخول لبنان في مرحلة شبيهة بالحقبة الممتدة منذ استقلال 43 إلى ثورة 58، ومن تاريخ هذه الثورة إلى حرب 67.
العامل الثالث أيديولوجي، يشكّل الدور الإيراني آخر الأدوار الأيديولوجية الكبرى القادرة على التأثير السلبي على محيطها، وهو دور عنوانه "ثقافة الموت" وينتمي إلى العالم القديم، أي إلى حقبة الحرب العالمية الأولى والثانية وما قبلهما، وفي حدّه الأقصى إلى مرحلة الاتحاد السوفياتي، حيث دخل العالم من بعدها في عصر العولمة وثورة الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو عصر "ثقافة الحياة" والفردية السياسية التي أصبحت فيها العقيدة الغالبة تتمحور حول نمط العيش والرفاهية والاستقرار.
ولأن الشعب اللبناني ليس شعباً عظيماً، ولأن التحوّلات الخارجية الاستراتيجية التي سيستفيد منها لبنان لينعم بالاستقرار والازدهار لن تكون ثابتة ونهائية بسبب أن الشعوب تاريخياً في حركة مدّ وجزر مستمرّة، من الضروري الاستفادة من "المومنتم" الدولي غير المسبوق بهدف تحصين الوضع اللبناني من خلال خطوات عدّة في محاولة للتخلُّص من اللعنة الداخلية بعد التخلُّص من اللعنة الخارجية.