سحب الحلّ العلماني لمأساة لبنان من التداول وكان لعقود صبوة معظم المثقفين ومن بينهم بعض ألمع رجال الدين خاصة أساقفة ولاهوتيين. ما بقي من العلمنة مشاهد ينحصر شعور رائيها بحزن عليها أو سخرية منها. من منّا فاتته مشاهدة عدد من الراهبات يتلون الفاتحة في عزاء شهيد لـ "حزب اللّه"؟ أو مشاهد تناقلتها وسائل التواصل، فتاة مسيحية تضع غطاء رأس، تقف تتعبّد أمام تمثال قاسم سليماني المكلّف من ولي صاحب الزمان بالحق، بنشر ولاية الفقيه في أصقاع الدنيا. وبعد التضرّع ترسم الفتاة إشارة الصليب وتنصرف بخشوع...
من مظاهر النضوج في أوساط المثقفين في لبنان إسقاط الأوهام ومخاطبة الواقع كما هو. لبنان حشد لمجموعات دينية تتجاور ولا تتآلف، تشترك في أمور خارجية كاللغة ومعظم ألوان الطعام. حتى اللباس الذي كان يجمع بين النسوة، ابتدأ منذ ما يقرب من 4 عقود، يتباعد بين المسلمات والمسيحيات. لبنان ملتقى مجموعات طائفية لكل منها رؤية للوجود ولمكوّناته تتحكّم بتصرف الأفراد والجماعات سواء أدركوا أم لم يدركوا، اعترفوا أم أنكروا.
التصرف الديني، وإن انتشر في جميع المكوّنات اللبنانية فاق نجاحه كل نجاح في أوساط شيعة لبنان. كان الشيعة تقليدياً الأقل تماسكاً بين طوائف لبنان. الكثير من المفكرين الماركسيين كانوا في عدادهم تعرّفوا على تلك الفلسفة الإلحادية وانتسبوا إليها أثناء دراستهم الفقه في الحوزات الدينية في العراق. الفاشية التي تمثلت بفكر أنطون سعادة وجدت مريدين لها في بداياتها بين المتعلّمين الشيعة. حتى الأحزاب المسيحية كان لها من الشيعة نصيب. بعض قيادات حزب الوطنيين الأحرار كانوا شيعة أسوة بالكثير من الشهابيين. ما زال ماثلاً في أذهان الكثير من شعبنا دور الرئيس كامل السعد في انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية عام 1982. كلّ ذاك كان من الماضي وطوته الأيام. إذ بدأت بعد الثورة الإسلامية وتبوّئها حكم إيران، حقبة جديدة في تاريخ شيعة لبنان اتسمت بتوحيد صفوفها وحسن التخطيط للسيطرة على مرافق الحياة العامة، وبناء تحالفات مع المكوّنات الأخرى. هذا التسلّق التدريجي ما كان ليتمّ دون سند إقليمي جدي وبلا حدود. لكن القيادات الشيعيّة أظهرت مقداراً من الدهاء ودقة التخطيط، كادا ينتهيان بهم إلى حكم لبنان لو لم يرتكب حسن نصرالله خطأ فادحاً في 8 تشرين الأول 2024 بإعلانه "المساندة والمشاغلة" لنصرة أهالي غزة. أساء نصر الله التقدير على مستويات عدة: قدرة إسرائيل على القتال، التماسك الداخلي في الدولة العبرية، إضافة إلى جهل نصرالله بتغلّل المخابرات الإسرائيلية في صفوف حزبه وقدراتها على استئصال القيادات العليا والوسطى ووسائل الاتصالات بين المقاتلين. يضاف إلى كل ذلك استعداد إسرائيل وقدرتها على التدمير الشامل للمناطق التي يسكنها الشيعة إن اقتضت الأمور.
غير أن ذروة الدهاء وحسن التخطيط هما في مكان آخر. إذ حتى إعلان الحرب، كانا يرتقيان بهم تدريجياً وبتصاعد إلى السيطرة التامة على لبنان والأهم، بطريقة سلمية.
كان ذلك عن طريق إضعاف مراكز قوى مكوّنات لبنان الأخرى فيما هم يقومون بتعزيز مراكز قوتهم، كرئاسة السلطة التشريعية وتخطيها حدودها لتسيطر على مراكز سائر المكوّنات الوطنية.
كان ذلك بحصر "القانون الأرثوذكسي" الذي ينادي بانتخاب كل طائفة ممثليها بهم، بينما قيّدوا سائر مكوّنات لبنان بمشاركة الجميع في انتخاب ممثلي كل طائفة.
بعد مقتل الحريري وانسحاب سوريا من لبنان بان للكثير أن مرحلة جديدة بدأت. تألفت لجنة برئاسة فؤاد بطرس لدراسة مشاريع انتخابات نيابية وفتحت الباب لاقتراحات المواطنين. من بين الاقتراحات التي قدّمت كان مشروع قانون انتخاب رفعه "التجمّع الأرثوذكسي" الذي يرأسه المحامي لطف الله خلاط، ويقضي بأن تنتخب كل طائفة ممثليها. لا شك أن سوء تمثيل الأرثوذكس كان دافع التجمع لهذا الطرح. الأرثوذكس حتى الانتخابات الأخيرة، كانوا تقليدياً سبايا سائر الطوائف التي تنتخب نواب الأرثوذكس وتوظفهم لخدمة مصالحها.
لم تأخذ "لجنة بطرس" بذاك الاقتراح وطويت صفحته. لكن الطائفة الشيعية، وبصمت، عملت على تطبيقه لمصلحتها دون أن تتخلى عن لوائح مشتركة تنتقي ممثلي طوائف أخرى وتستعين بهم لتحقيق مصالحها.
الانتخابات الأخيرة انتهت بحصر جميع النواب الشيعة بالثنائي دون أي استثناء (أليس ذاك القانون الأرثوذكسي؟) وبالوقت نفسه ساعد الصوت الشيعي في المناطق حيث هم أقلية، بنجاح حلفاء لهم من سائر الطوائف، وبالتخصيص، رفع عدد أعضاء حلفاء الشيعة من الموارنة.
نتيجة ذاك الإجراء كانت السيطرة التامة لهم على مفاصل الدولة.
إليكم الأسباب:
صحيح أن للموارنة رئاسة الجمهورية، وهي على أهمية وإن قلّصت صلاحية الرئيس. غير أنّ انتقاء رئيس يمكن نظرياً أن يختار من أي ماروني بالغ يتمتع بكامل حقوقه وهم يعدّون بمئات الآلاف، الأمر ينطبق على رئيس مجلس الوزراء إذ إن المرشحين، نظرياً، هم سنة بمئات الألوف بحيث يتسنى للشيعة إغراء البعض ووضع فيتوات على آخرين استدراجاً لتنازلات تصبّ في مصلحة الشيعة.
لكن ماذا عن حصة الشيعة، رئاسة المجلس النيابي؟ الأمر هنا مختلف. الخيارات تنحصر بالـ 27 نائباً شيعياً إذ لا يمكن انتخاب رئيس مجلس من غير النواب، والـ 27 نائباً شيعياً هم حصراً من الثنائي.
ثم إن المجموعة السياسية الشيعية منعت انتخاب رئيس جمهورية مخالفة كل قانون وعرف إذ أصرّت على أن الدعوة لجلسة انتخاب منوطة بقرار رئيس المجلس دون أي قيد أو مهلة. ومع تعطيل المجلس الدستوري الذي لا يتمتع بأي حصانة، انتهى الأمر إلى شغور المنصب الرئاسي. أما المنصب الثاني، رئيس مجلس الوزراء، فقد قلّصت صلاحياته إذ انحصرت بتصريف الأعمال ما أدى إلى اندثار سلطة تنفيذية بالكامل بعد أن كانت، حتى في الأحوال العادية، تعاني من شلل بناء على مبدأ "الميثاقية" و "التوافقية" و "التوقيع الثالث" لوزير المالية الذي منذ عقود اختصت الطائفة الشيعية به. كل ذلك انتهى إلى سيطرة تامة للطائفة الشيعية على مفاصل الدولة وقراراتها.
إزاء شغور السلطة التنفيذية بدأ في لبنان ما لا سابق له في الأنظمة الدستورية. المفاوضات الدبلوماسية يقوم بها رئيس المجلس النيابي. يستقبل ويودّع، يفاوض، يقبل ويرفض، دون صلاحية وخارج كل قيد.
كان من الممكن أن يستمرّ السير في هذا السياق إلى أن تتحلّل الدولة وتستبدل بإطار دستوري ينقل "الحالة الواقعية" إلى "حالة قانونية" تعلن "ولاية فقيه" في لبنان، لولا القرار الذي اتخذه حسن نصرالله في 8 تشرين الأوّل والذي وضع حداً لهذه المسيرة.
من البديهي أن الوضع الحالي هو الأفضل لغير الطائفة الشيعية إذ به عودة إلى ما قبل العام 2006. لكن الغموض يبقى حول مستقبل لبنان. التطوّرات الأخيرة تبقى واعدة إذ إن الوضع الحالي يسمح بحلول ربما تأتي لمصلحة الوطن ويقلّص الهيمنة العسكرية- السياسية – الميليشياوية لـ "حزب اللّه"، والذي كان سيؤدي لا محالة، إلى القضاء على روح لبنان وإن حافظ على شكله الخارجي. كنا كمن يرمي اللؤلؤة ويحتفط بالصدفة.