نبيل منوال يونس

مانيفست الجمهورية اللبنانية الفيدرالية الموحَّدَة

12 أيلول 2020

02 : 00

"قد ولدتم معاً وستظلّون معاً... فليكن بين وجودكم معاً فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض حتّى ترقص أرياح السموات في ما بينكم... قفوا معاً ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيراً لأنّ عمودي الهيكل يقفان منفصلين"

جبران خليل جبران

بعدما فوّت لبنانُ فرصةَ اعتماد الحياد العربي، ومن ثمَّ الحياد الإقليمي، أصبح نظامُهُ غير صالحٍ للتوفيقِ بين تعايش الفئات اللبنانية، وبين ارتباط كلّ منها بمحورٍ إقليمي، وأصبحتِ الصيغةُ وشكلُ الدولةِ غير صالحين للتعايُش وللإستقرار السياسي وللسلم الأهلي، وغيرَ قابلين للترميمِ، فأصبحت وحدةُ لبنان بخطر. إن هذه الحالة تستلزم استبدال النظام السياسي اللبناني برمّتهِ بنظام وصيغة جديدين، تكون غايتهما الأساسيةُ تأمين سلامة تعايش طوائف لبنان والمحافظة على وحدته.

فما هو النظامُ البديل؟

بغيةُ التوصُّلِ الى خيارٍ صحيحٍ يقتضي الأخذ في الإعتِبارِ الملاحظاتِ الآتية:

أولاً، تتكوّنُ الدولُ من عناصرَ لها تأثيرٌ جامعٌ ومُوَحِّدٌ للدولة facteurs fédérateurs، ومن عناصرَ تفريقيةٍ لها مفاعيلٌ سلبيةٌ على وحدَتِها facteurs centrifuges.

يجمعُ اللبنانيين الهوية والمشاعر الوطنية والحسّ بالمواطنة وبالإنتماءِ اللبناني وبثقافة ولغة لبنانية مشتركة، ويجمعُ بين قسمٍ منهم إدراكٌ بأنّ هنالكَ مصالح إقتصاديـة وسياسيـة مشتركة لها تأثيرٌ موحّد. غير أنّه بقي لدى الأكثرية الساحقة من اللبنانيينَ حسٌّ بالإنتماءِ الى القضايا والدول والمحاور الأجنبيةِ ورغبةٌ بمناصرَتِها ولو على حساب مصلحة لبنان، وهذا له تأثيرٌ مفرِّقٌ أقوى من التأثيرات الجامعة الموحّدة.

ثانياً، كان من المُمكِن، لو اعتمد لبنان، حكومةً وشعباً، الحياد العربي بعد الإستقلال، والحياد خلال الحرب الباردة وفي ما بعد الحياد الإقليمي، أن يتكوَّن لدى أبنائه حسّ المُواطنة والإنتماء الوطني ومناعَـة ضدّ التأثيراتِ الخارجية؛ غيرَ أنَّ الذين سيطروا على قرارِ الدولةِ تِباعاً لم يَحتَرِموا الحيادَ والنأي بالنفس، ولم تَتَخَلَّ الطوائف عن تقليدٍ تاريخيٍ بالولاءِ للقوى الأجنبية على حساب لبنان.

فأكثريةُ المسيحيين لم تتخلَّ يوماً عن وصاية الغرب وطلب حمايته ومناصرته، سواء في ساحات المعارك أو عند عقد الإتفاقات والمعاهدات، أو عند اتّخاذ القرارات الدولية، وجعلوا الموقف الرسمي للدولة عندما كانت السلطة بيدِهِم، مؤيّداً لأميركا في الحربِ الباردة، ذلك بالرغم من أنّ الغرب كان على عداءٍ معَ أكثرية القوى العربية والإسلامية، كما أنَّهُم تعاونوا مع إسرائيل خلال حرب 1975 وما تَبِعها لمجابهة الخطر الفلسطيني على لبنان، ورحَّبَ أكثَرهُـم بالإجتياح الإسرائيلي سنة 1982 أكثر ممّا رحّبَت به باقي الطوائف.

أما السُنّة، فقد رفضت أكثريتُهم الإنفصال عن سوريا منذ سنة 1920، وناصرت القومية والوحدة العربية والرئيس عبد الناصر خلال ثورة 1958 والقضيَّة الفلسطينية، حتّى عندما كانت تستهدف الكيانَ اللبناني، واليوم يناصرُ الشيعةُ المِحور الإيراني- السوري في صِراعِهِ وحروبه الإقليمية والدولية مما حوَّل لبنان مسرحاً لذلك الصراع.

فإذا طبَّقنا القاعدة الإبن خَلدونية القائلة بأنّ الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء، فإنَّ لبنانَ الذي لم يعرف الحياد خلال تاريخه الحديث، حتّى عندما كان سيِّد نَفسِهِ، فهو لن يُمارسه في المستقبل، وبالتالي سيَبقى الصراع بين اللبنانيين على الخيارات الخارجية قائماً.

ثالثاً، لقد أدّت التحوّلات الديموغرافية والجغرافية والسياسية والعسكرية والإقتصادية الى تصعيد الصراعين العالمي والإقليمي ممّا تسبّب، نظراً للخلافات على الخيارات الخارجية، في تصعيد الصراع الداخلي اللبناني الذي قد يصـل الى صراعٍ مسلّحٍ طويلِ الأمدِ، سيؤدّي في أول الأمر بنتيجة انتقال النقطة المركزية للحرب الباردة العالمية الثانية من دمشق الى بيروت، الى تحويل أرض لبنان ساحة حرب ساخنة، ممّا سيؤدي إمّا الى دكتاتورية مذهبية أو الى تقسيمِ لبنان.

رابعاً، أصبح السلم الأهلي ووحدة لبنان اليوم في خطرٍ داهمٍ لا يَتركُ مجالاً أو وقتاً للتسويات أو لإصلاحِ النظام أو ترميمه.

يستخلص أنّ اللبنانيين لم يختلفوا أو يتصارعوا أو يتقاتلوا يوماً لأيّ سبب، إلا بنتيجة علاقاتهم مع أطراف غير لبنانية متصارعة في ما بينها، وأنّ هنالك إستحالة لوقف الصراع المدمِّر بين اللبنانيين طالما تعدّدت خياراتهم الخارجية، وحاول كلّ فريق حمل الدولة على تأييد خيارهم.

وهكذا أصبح من الضروري إستبدالُ النظام السياسي اللبناني برُمَّته واعتمادُ نظامٍ بديل سيكون معقّداً عملاً بقاعدة استحالة معالجة المعضلات المعقّدة بحلولٍ مبسّطةٍ، على أن تكونَ غايته الآنية وقفَ تصعيدِ وتيرةِ الصراع الداخلي عن طريق إزالة سببه، ألا وهو الخلاف على تحديد الموقف الرسمي للدولة من الصراعات الإقليمية.

فعلى ضوء ما تقدّم، أقترح اعتمادَ نظام فيدرالي غير تقليدي خاص بلبنان وفريد في العالم يتناسَبُ مع مُعطياتِ لبنان السوسيولوجية. فبينما تقوم الفيدراليات الكلاسيكيةُ بشكلٍ أساسيٍ على الفصلِ الجغرافي وعلى توحيد السياسة الخارجية والجيش، فإنّ النموذج المطلوب للبنان هو فيدراليةُ كيانات بتقسيم جغرافي مرن، قوامُها تقوية وتطوير اللامركزية الإداريةِ لتُصبِحَ لامركزيةً سياسية - إدارية مرتكزُها الأساسي هو أن تكون لكلّ من الوحداتِ الجغرافيةِ التي تتألَفُ منها الدولة الفيدرالية سياسة ووزارة خارجية خاصة بها.

إنّ اختيار القواعد التي ستجسّد أُسُسَ النظام المطلوب وتحديد السلطات التي ستنفَصِل، بالإضافةِ الى وزارة الخارجيةِ، كالجيشِ والقوى الأمنيةِ وأجهزتِهما، تستلزِمُ أبحاثاً ودراساتٍ في القانونِ العامِ، لا سيّما الدستوري، وتحديداً في أُسس الدولةِ الفيدراليةِ وفي القانونِ الخاصِ، وفي الجغرافيا والسوسيولوجيا وفي أوضاع الأقلّياتِ وحقوقِهـا بغية تحديد الأُسس والآليات التي ستُوَفِّق بين فصل تلك السلطات وبين المحافظة على وحدة لبنان، شعباً ودولةً وكياناً.

إنّ الفيديرالية المطلوبة للبنانَ تهدفُ بشكلٍ أساسيٍ الى إزالةِ سببِ الصراعِ بين أبنائِه، ألا وهو العلاقةُ بالخارج، والى المحافظة على وحدة لبنان في إطار نظامٍ يؤمّنُ السلمَ الأهلي وتعايُش طوائفه في بلدِ الحضاراتِ والثقافاتِ والهوياتِ الكثيرة، وفي وطن كلّ الأديان.

إنّ الخيار المتاح هو بين نموذجِ سويسرا الفيدراليةِ الإتّحاديةِ وبين نموذج قبرص المُقَسَّمة، ويُخطئ من يراهِنُ على النموذَجِ الديكتاتوري.