ميشال زيدان

مذكرات الأمير فخر الدين في "ضيف آل ميديسيس" لكارول داغر

12 أيلول 2020

02 : 00

في هذا العام الذي نحتفل فيه بمئوية لبنان الكبير، صدرت رواية "ضيف آل ميديسيس" للصحافية والباحثة اللبنانية – الفرنسية، كارول داغر. وتجري احداث هذه الرواية على لسان الأمير فخر الدين على شكل مذكرات حول اقامته في توسكانة ومن ثم عودته الظافرة الى لبنان، حيث استطاع ان يجعل حدود لبنان أوسع مما هي اليوم كما انه وحّد شعبه لعشرين سنة تقريباً.

لماذا "آل ميديسيس" أو آل ميديتشي؟ لأن حكّام دوقية توسكانة- وعاصمتها فلورنسة- حيث استُقبل فخر الدين الثاني كضيف عزيز بعد هروبه من العثمانيين يتحدرون من آل ميديسيس في فرنسا. من هناك، اي توسكانة تبدأ حوادث رواية "ضيف آل ميديسيس" بالفرنسية للبنانية كارول داغر، حيث أقام فخر الدين الثاني الكبير، بعدما اجتاح العثمانيون وحلفاؤهم آل سيفا ووالي دمشق اراضيه التي عمل على توسيعها، انطلاقاً من صيدا والشوف حتى بلغت حدود اللاذقية شمالاً وحدود يافا جنوباً، وعلى مقربةٍ من ولاية دمشق شرقاً. تجري احداث هذه الرواية على لسان فخر الدين ذاته كنوعٍ من السيرة الذاتية وأهمية هذه الفترة التاريخية، أولاً أنّها تشكل مفصلاً بين فترتي حكمه وتمهّد لانطلاقةٍ جديدة للبنان الذي توصّل فخر الدين الى جعله كياناً مستقلاً فيه الكثير من مكونات الدولة حتى سميّ بالعصر الذهبي. وتقول المؤلفة إنّها ارادت ان تثبت، بل تذكّر بأنّ لبنان كان موجوداً سياسياً قبل تأسيس "لبنان الكبير" الذي نحتفل بمئويته اليوم، وبمساحة أكبر مما هو عليه الآن بفضل شخصية نادرة هي فخر الدين.





توسّعت الكاتبة في وصف حياة الأوروبيين في تلك الحقبة وخصوصاً من ناحية الحضارة العمرانية والثقافية والعلمية وحول تلاقي حضارتين مختلفتين مما يهم الفرنسيين والطليان الذين أقبلوا على قراءة الكتاب. كما أنّها وجدت حبكة روائية تجعلها تتغلغل الى عمق شخصية فخرالدين الفريدة والمتنوعة وتتقاطع مع الحبكة السياسية، وذلك من خلال علاقة حب بين الأمير المشرقي وفتاة ايطالية. اما الحبكة السياسية لحياة الأمير في توسكانا فتدور حول محاولته الدؤوبة لتحقيق حلمه السياسي والعسكري بجعل الفلورنسيين يواجهون العثمانيين عسكرياً أو يمدونه بدعم بحري. لكن الأمور تعقدت في ما بعد رغم أنّها بدت في غاية السهولة في بادئ الأمر. فعند وصوله استقبله الحاكم بحفاوة بالغة معرّفاً عنه كأمير لبنان والجليل وزعيم الدروز، بينما اعتبره ممثل الفاتيكان حامي المسيحيين في الشرق، ربما لأنه سمح بعلاقة تعاون بين رهبان مورانة ورجال دين فرنسيين في ترجمة الكتب الدينية. كما سمح لبعض الأرساليات بالقدوم الى بلاده وانشاء المعاهد، بالإضافة الى أنّ والدته الستّ نسب أرسلته وهو في الثانية عشرة، الى عائلة مسيحية من آل الخازن حيث عاش حتى بلوغه سن الرشد، وذلك هرباً من قاتلي أبيه. ورغم حفاوة الغرب هذه، تبيّن لفخر الدين ان كوزمو الذي أبدى استعداده لمدّه بالأسلحة والبارود كان يتهرّب من القيام بحملة ضد العثمانيين فلجأ الى الفاتيكان لكن البابا لم يبدِ حماسة كافية.

يعتبر فخر الدين- الراوي في سرده للأحداث واللقاءات مع ممثلي مختلف الدول الأوروبية من توسكانة الى البندقية الى جنوى ثم اسبانيا، أنّ مبدأ التنافس لتلك الدول في ما بينها لا يقلّ أهميّة عن استراتيجية مقاومة السلطة العثمانية، ما يجعل القادة والحكام يتّسمون بالخبث والإزدواجية. لذلك ونكايةً بالطليان عرض الإسبان مساعدته ومرافقته بالبوارج الحربية حتى شواطئ صور وصيدا فاستقدمه "اوسونا" نائب الملك اولاً" الى نابولي وصقلية اللتين كان يسيطرعليهما. ويقول فخر الدين أنّ الحكام هناك ربما تأثروا بنظرية ماكيافيللي، "الغاية تبرر الوسيلة" في كتابه "الأمير"، الذي لقي رواجاً في ايطاليا آنذاك والذي حدثته والدة الحاكم كوزمو عنه.



بعيدا" من السياسة: الحب والفنّ

لكن فخرالدين وجد في فلورنسة فرصةً للتأمل الهادئ في حياته فاكتشف في نفسه شخصية جديدة كأنه ولد من جديد، فإذ به يفرغ وقتاً لمراقبة اعمال المهندسين والفنانين ويعجب بالحفلات الموسيقية حيث جذبته فتاة تعزف على العود ولمّا التقاها في إحدى المحترفات حيث تمارس ايضاً النحت والرسم ازداد تعلقاً بها. ومن ذكاء المؤلفة ان ربطت علاقته بهذه المرأة برهافة مشاعره وبإعجابه بالفنّ وليس برغبة عابرة فقد بدا هذا القائد والحاكم الفذّ محافظاً بل خجولاً في علاقته بالنساء في بادئ الامر، لكن هذه المرأة جعلته يكتشف الحبّ لأول مرة. فالأمراء والقادة في بلادٍ محافظة- حسب قوله - يتزوّجون لأسبابٍ عائلية أو سياسية وهذا ما سبق أن فعله فخرالدين نفسه عندما تزوج للمرة الرابعة من ابنة أخ عدوه اللدود يوسف سيفا، ليس لمصالحته كما يظن البعض، بل ليزرع الشقاق بين أبناء العائلة.

ومن ضمن اهتمامه بالتطور الحضاري جاء اهتمامه بالعلم والثقافة وهذا برأيه امر طبيعي اذ ان اقامة اول مطبعة في الشرق كانت على عهده. لذلك ما إن علم بوجود "غاليليه" الفلكي والفيلسوف، الأهم بعد كوبرنيكوس حتى ذهب لملاقاته والتحدّث معه في شؤون الكون والفلك فأصبح صديقه. ثم تلقّى من مخترع التلسكوب هدية هي نوع من المنظار سوف يستخدمه لمراقبة جيوش العدو كما حصل في معركة عنجر بعد عودته. ومن اللافت ان فخر الدين كان على مستوى فكري سمح له بالتفاهم مع غاليليه حول تأثير النجوم على البشر وإمكانية التناسخ، ما ذكّره ببعض ما كانت تقوله له امه. ومن المعلومات التاريخية والثقافية الأخرى التي تحفل بها هذه الرواية انّ العالم فيثاغوروس الذي ظنه فخر الدين، ككلّ الناس، يونانياً وُلد في لبنان حسب قول غاليليه.

على طريق العودة


قبل مغادرة فخر الدين توسكانة في السنة الرابعة من منفاه. شاءت الرواية أن تلد حبيبته "إلبا" صبياً وضعه فخر الدين في مكان آمن. ولكن أحد اعدائه الطليان، وهو تاجر أقام علاقات مع السلطة العثمانية اغتالها عندما لم ينجح بالإيقاع بالأمير، ممّا اضطر الأخير الى أخذ ولده بيترو معه. ولكنه عندما اكتشف ابتزاز نائب الملك الإسباني، لم يتأخر في العودة الى بلاده خصوصاً عندما عرف ان والدته لا تزال محجوزة لدى والي دمشق. قبل وصول فخر الدين، حطّت بوارجه الثلاث في مالطا حيث التقى فرسان مالطا الذين تكفّلوا بتربية ابنه. وبعد عودته بعامٍ واحد وكما يعلم الجميع، بدأ العصر الذهبي الذي دام 16 عاماً. فقد تخلّص من يوسف سيفا في طرابلس ثم هزم العثمانيين ووالي دمشق في معركة عنجر الشهيرة. واستعاد كلّ اراضيه ووسّعها حتى سمّي بسلطان البر. عندها، بدأ العمران بتوجيهات المهندسين الطليان كما استقدم الفرنسيين لينشروا العلم في المعاهد التي انشأها، لكن العثمانيين انقلبوا عليه وهزموه واقتادوه الى الآستانة أي اسطنبول حيث اعدموه.





فخر الدين والكيان اللبناني


تظهر صورة فخر الدين من خلال الكتاب، منسجمة مع ما نعرفه عنه من حيلة ودهاء من جهة وحزم وجرأة قلّ نظيرهما من جهة اخرى، بل امتاز ايضاً بالعناد والنفس الطويل في محاربته للسلطة العثمانية، فقد استطاع رغم هزيمته الأولى عام 1613 ان يعود بعد خمس سنوات بأقوى مما كان، رغم ان حلفاءه لم يأتوا معه ولم يساعدوه إلا بمدّه بالسلاح والبارود الذي كانوا يصنعونه في بلادهم. ولولا فكره الاستراتيجي وتخطيطه للمستقبل وحسن تقدير الأمور في السياسة، لما أقام علاقاتٍ ودية وتجارية مع الغرب ما مكّنه من انقاذ حياته ومصير بلاده في ما بعد، وقت الهزيمة. وأهم من ذلك كله انه انطلق اولاً من منطقته حيث عرف كيف يحبّه شعبه ويخلص له. كان توحيد العشائر وكلّ فئات الشعب همه الأساس. فمع انه درزي شجع على التعاون بين مختلف الطوائف فبنى الجوامع والكنائس، كما دعم حلفاءه وأهمهم الشهابيون. لفتتنا حادثة اثناء محاولته العودة، عندما اقترب من الدامور وصيدا، ولكنه عاد لأن البوارج العثمانية كانت بانتظاره. عندما علم الشعب والأعيان بقدومه أتوا من كل البقاع رغم الخطر العثماني، عبر الزوارق لملاقاته على سفينته والترحيب به. عدوه الأكبر الفُرقة التي تمزّق شعبه والزعماء الذين لا يفكرون إلاّ بمصالحهم الضيقة وبالاستقواء بالعثمانيين ولاتهم للنيل من العشائر المجاورة. نتيجة لذلك خذلوه عندما اجتاح العثمانيون أراضيه لأول مرة فحاول جمعهم لمقاومة العدو الذي فضّل بعضهم ان يستسلم له وبعضهم الآخر ان يتملقه، نكايةً بعشائر اخرى. ويذكر فخر الدين ان امه كانت دائماً تقول: "مصير لبنان ان يدفع ثمن الخلافات بين العشائر والطوائف ذات الأصول المختلفة".

هي من العبارات الكثيرة في الكتاب التي تدل ّعلى تشابه بين لبنان فخر الدين ولبنان اليوم. وتقول المؤلفة: "لا فرق كبيراً بين اللبنانين سوى انّ العشائر استُبدِلت بالطوائف. ويلفتنا هنا قولٌ لفخر الدين نفسه: "قدَرُنا ان نحاول دائماً الحفاظ على السيادة في وجه أطماع دمشق".


MISS 3