مع التقدم السريع للفصائل السورية المعارضة، تسود مشاعر متضاربة لدى الجماهير والنخب، في سوريا كما في الجغرافيا السياسية الأوسع عربياً وإقليمياً ودولياً، ما بين الابتهاج بتقلّص نفوذ الحكم الاستبدادي القهري للأسد، وحلفائه من ملالي إيران، وبين الخوف من التنظيمات الإسلامية الراديكالية التي خرجت من رحمها "هيئة تحرير الشام" بزعامة أبي محمد الجولاني، التي تتولى زمام قيادة العمليات.
هذه الفجوة يسعى محور الممانعة إلى استغلالها، للنفاذ إلى عقول الجماهير عبر خطاب يُعيد من خلاله إنتاج نفسه سياسياً، وإبراز الحاجة إليه في مواجهة التنظيمات الإرهابية. وهي الحجة نفسها التي سبق أن استخدمها قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، للدخول في "التحالف الدولي" مع "الشيطان الأكبر" وحلفائه من "الشياطين" الآخرين، واكتساب مشروعية دولية لتمدد أذرعه الميليشياوية في المنطقة.
بيد أنه وفي موازاة انتهاء صلاحية هذه المشروعية، يبدو من الواضح أن الجولاني خضع لعملية تأهيل سياسي جعلته أكثر نضجاً، مستفيداً من "التكلّس" السياسي والفكري والعملاني لنظام الأسد، وحالة الاختناق الشعبي في الحواضر السورية، من أجل اكتساب المزيد من التأييد الجماهيري، وعقد تحالفات أوسع، والحصول على غطاء دولي في العملية التي أطلقها.
هذا النضج يتبدّى في التغيير الجذري في خطابه، والرسائل الإيجابية التي يحرص على توجيهها إلى مختلف الأطراف السياسية والدينية والعرقية. ومنها تخليه التدريجي عن الاسم الحركي، وهي السمة الطاغية لدى كلّ التنظيمات الإسلامية، الشيعية منها والسنية، وإظهار اسمه الأصلي، أحمد حسين الشرع، في رسالة تظهر تخفيفه من الطابع الراديكالي، والتي عزّزها بحمل "علم الثورة"، بعدما كان يُعدّ "رمزاً إلحادياً" في نهج تنظيمه. ومع ذلك، ثمة الكثير من التحدّيات التي يجبهها الجولاني لتلميع صورته، وتشتمل على كيفية تعامله مع الأقليات، والعلمانيين، وباقي أطياف المعارضة السورية، وضحايا النظام في السجون، والفئات الأكثر هشاشة.
وفي هذا الإطار، كانت لافتة للغاية إطلالته الإعلامية عبر منبر قناة "سي أن أن" الأميركية بالذات، وتعريفها له بـ "زعيم فصائل المعارضة السورية"، والثقة التي تحدّث بها معززة بالهدوء والاتزان، بما يؤكد خضوعه لتدريب صقل شخصيته السياسية وخطابه، علاوة على المواقف التي أطلقها ومهّد من خلالها لتفكيك تنظيمه، الذي عدّه "جزءاً من مشروع بناء سوريا"، و"وسيلة لأداء مهمة" تتمثل في "مواجهة النظام الاستبدادي"، وحديثه عن بناء دولة المؤسّسات، ودور الشعب في إنتاج مجلس نيابي وحكومة ديمقراطية.
ناهيكم بدفاعه عن فكرتي الوطن والدولة، عبر حصره العمل في الجغرافيا السورية حصراً، وعدم تمدّد تنظيمه ضمن مشروع إقليمي أو أممي إسلامي نحو الجيران القلقين. أما الرسالة الأبرز، فكانت موقفه من التنوّع العرقي والديني والإيديولوجي، وتأكيده أن "الطوائف تتعايش في هذه المنطقة منذ مئات السنين ولا يحق لأحد القضاء عليها"، الأمر الذي يُشكّل انقلاباً على كلّ مفاهيم وسياسات التنظيمات الراديكالية والتكفيرية ذات السمات العدوانية والإلغائية للتنوّع، وتنظيمه كان واحداً منها، والتي تنطلق من فكرة "الفرقة الناجية".
ويبلغ هذا التحوّل مداه في سياسات الانفتاح التي يُطبّقها الجولاني، ليصل إلى رعاية وتأمين مناخ آمن وهادئ لمختلف الطوائف المسيحية للاحتفال بعيد الميلاد هذا الشهر.
يلتقي كلّ ما سبق مع مشروع تأهيل النظام في سوريا لاحتواء كلّ أطياف المعارضة، والذي يحظى بدعم عربي وإسلامي وغربي، ويندرج ضمن القرار الدولي 2254. لكن، يبقى تطوّر هذا المشروع رهن المفاوضات السياسية التي تمضي على وقع الميدان وتحولاته. وليس واضحاً بعد إن كان سيصل إلى تغيير رأس النظام، أم سيقتصر على نزع الكثير من صلاحياته، والتمهيد لتغييره في ما بعد بالطرق السياسية.
وتأسيساً على التجارب المريرة، والإرث السياسي المثخن بالندوب العميقة في المنطقة، كان من البديهي أن تكون الحالة الإسلامية جزءاً من هذا المشروع التغييري الكبير لتعزيز فرص نجاحه، لا سيّما أن إقصاءها يعني استيلاد حفلات التكفير والدم من جديد عبر مسميات جديدة، في ظل تجذر الحالة الإسلامية في النسيج المجتمعي العام للحواضر الكبرى، وعدم نجاح حافظ الأسد نفسه، بكل ما عرف عنه من بطش وجبروت، في القضاء عليها.
ونزيد من البيت شعراً بالتذكير بأن الإسلام في تركيا، التي لديها إسهام كبير في هذا المشروع الكبير، هو صوفي الهوية، وبينه وبين الإسلام الراديكالي عداء كبير ليس أقلّ من ذاك الذي بين الأخير وعقيدة "ولاية الفقيه". كما أن دول الخليج تخوض منذ سنوات مجابهة سياسية وفكرية واسعة مع التنظيمات الإسلامية التكفيرية والراديكالية، وليست في وارد منح مشروعية من أي نوع لحكم واحد منها. وعليه، فإن خطاب التخويف الذي تتسع مديات ترويجه من قبل "حزب الله" وملالي إيران لن ينجح في إعادة استجرار أمجاد الماضي القريب.