هرب الأسد وشُرّعت أبواب السجون مبشّرة بسقوط الطاغية وانتهاء عذابات حفرها أصحابها بالدم على جدران الزنازين ليقولوا "هنا يموت الإنسان ألف مرة ومن لم يسلِم الروح يبقى شبه إنسان". هذه حال معتقلي النظام السوري على مدى ستة عقود تقريباً من تاريخ أسود كتبه حافظ وبشار معاً، وها هي أقبية "السجون الأسدية" تكشف كل يوم قصصاً مأسوية عن إنسانية معدومة، وإجرام يصعب على العقل التصديق بأنه موجود.
وبعد، ها هو الأسد أضحى لاجئاً في موسكو، هرب في عتمة الليل ومعه الذهب والأموال ليتنعّم بحرّية سلبها من معارضيه، وينعم بأمان حرمه لشعبه. فمن يحاكم هذا المجرم؟ أيشفي سقوط النظام غليل شعبٍ هُجّر، وارتُكبت بحقه أبشع الجرائم ضد الإنسانية؟
بدأت الأصوات المطالبة بمحاكمة الأسد وأعوانه تتعالى داخل سوريا وخارجها بعد سقوط النظام. فقائد "هيئة تحرير الشام" أحمد الشرع المعروف بـ "أبو محمد الجولاني"، تعهد بملاحقة المتورّطين في التعذيب، كذلك "المرصد السوري لحقوق الإنسان" حدّد مجموعة أسماء قال إنها يجب أن تخضع للمحاكمة، أبرزها اسما رئيس النظام بشار الأسد وشقيقه ماهر الأسد.
وزارة العدل الأميركية أصدرت من جهتها، لائحة اتهام ضدّ اثنين من كبار المسؤولين في المخابرات السورية في عهد الأسد، ما يفتح الطريق أمام الكثير من الدول والهيئات لبدء مسار طويل من التحقيق والملاحقة. ولكن هل تطال هذه المرّة الملاحقات ومذكرات الاعتقال الأسد اللاجئ إلى روسيا أم سيبقى بمنأى عن المحاسبة؟
المحامي الرئيسي لدى المحاكم الجنائية الدولية وأستاذ القانون الدولي في الجامعة اللبنانية البروفسور أنطونيوس أبو كسم يحسم لـ "نداء الوطن" عدم صلاحية المحكمة الجنائية الدولية في النظر بالجرائم المرتكبة على الأراضي السورية، لأن سوريا ليست دولة مصادقة على نظام روما، وهو المعاهدة الدولية المؤسِسة لهذه المحكمة، هذا فضلاً عن الحماية التي تمارسها روسيا للأسد، وبالتالي حتى لو حاول مجلس الأمن مرّة جديدة إحالة الملف السوري إلى "الجنائية الدولية" سيصطدم بـ "الفيتو" الروسي.
أما عن الآليات المتاحة لمحاكمة الأسد، فيوضح أبو كسم أنها وفقاً للاختصاص القضائي الشامل، أمام محاكم وطنية ذات اختصاص شامل في أي من الدول، بما معناه قوانين العقوبات لدى هذه المحاكم تضمّ جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. وفي هذا السياق، كشف أبو كسم أن محاكم أوروبّية عديدة أصدرت قرارات ملاحقة ضدّ ضباط وشخصيات في النظام السوري المخلوع ارتكبت جرائم منذ العام 2011 وحتى اليوم. وهنا تكمن الإشكالية في تسليم الأسد، فهل تتعاون روسيا مع هذه المحاكم وترفع غطاءها عنه؟
روسيا أعطت الأسد حق اللجوء الإنساني، هذا المفهوم في القوانين الدولية يمنح الحماية للأشخاص المعرضين لخطر على حياتهم أو سلامتهم بسبب النزاعات أو الاضطهاد، غير أنها تستثني المتهمين بجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب. وبالتالي، يشرح أبو كسم أن حصانة الأسد سقطت، هذا فضلاً عن أنه لم يعُد يتمتع اليوم بصفة "رئيس دولة" وتصبح محاكمته كأي فرد عادي.
وبما أن "القيصر" لن يتخلّى على ما يبدو عن حماية "الطاغية"، لا سبيل لملاحقة الأسد ومحاكمته، إلّا خارج الأراضي الروسية، حيث يُمكن اعتقاله في أي من الدول التي قدّمت عبر محاكمها التي تطبّق الاختصاص الشامل، شكوى ضده.
زعماء ورؤساء دول عدّة مارسوا القمع وارتكبوا الجرائم بحق شعبهم، إلّا أن "سيف العدالة" لم يمسّهم، والأمثلة كثيرة. فهل تتحقق العدالة الكاملة هذه المرّة وينصف التاريخ شعباً عانى بطش النظام الأسوأ على الإطلاق، فيُحرم "جزّار دمشق" الحرّية ونور الشمس كما حرمهما لآلاف المعتقلين؟