نجيب جورج عوض

الثورة لم تحقق مبادئها وأهدافها بعد

سوريا المتحرّرة: ثلاثة تحديات على أرض الواقع

لا ينبغي السماح لأي صوت واحد أو أحادي (رويترز)

"سوريا حرة". أطلق السوريون هذا الشعار واحتفلوا بإسقاطهم النظام المجرم طوال الأسبوع الماضي. نزل السوريون بمئات الآلاف وحتى الملايين إلى كلّ شوارع مدن سوريا الرئيسية بكافة الفئات والشرائح والأطياف والأجناس والأديان والثقافات والمعتقدات والطوائف والأحزاب والتوجهات. عاشت سوريا أسبوع انتصارٍ وفرحٍ وتحررٍ تاريخياً لا يُنسى ولن يُمحى أبداً من تاريخ البلد العريق والطاعن في القدم.



واليوم، السؤال حول القادم هو الذي يترك داخل السوريين مشاعر متضاربة تتراوح بين التفاؤل الشديد وصولاً إلى التشاؤم الشديد، إلا أن جوهر المسألة هو أن يفهم السوريون بأن السياسة وبناء الدولة وحياكة النسيج المجتمعي لأمة ممزقة لا تتحقق بالمشاعر والعواطف، ولا يقررها التشاؤم والتفاؤل. هناك الكثير جداً من العمل والنشاط المطلوبين على مستوى السياسة والتأسيس. سأعرض ثلاثة مقومات أو معطيات مبدئية يجب أن ينتبه إليها أهل سوريا في محاولتهم لإعادة بناء البلد. وهي ثلاث نقاط توصيفية تحليلية غرضها أن تفكك المشهد وأن تشرّحه بمشرطٍ موضوعي ونقدي وتوعوي.



1 - علينا ألّا ننسى أن سوريا عبر السنوات الخمسين الماضية كانت تفتقر إلى الفضاء السياسي والحراك السياسي المدني. فسوريا الأسدَين، الأب والإبن، عملت بشكل ممنهج وحاسم على التخلص من كافة الأطياف السياسية المتنوعة في البلد بقمعها للأحزاب وتدجينها، ومن ثم من خلال ممارسة القمع والعنف الأمني والاستخباراتي على كافة التيارات السياسية والمدنية التي وجدت تاريخياً في البلد، وحملت رؤى وأفكاراً مختلفة.



قُمعت الساحة العامة السورية ونُظّفت من أي حراك مدني ونشاط سياسي، ما غسل عقول خمسة أجيال من السوريين من أي فكر سياسي وأي قدرة على المحاكمة والعقلنة السياسية الطبيعة. اختزلت فكرة السياسة في العقل السوري إلى فكرة "سلطة" فقط. ولهذا، فإن سوريا المقبلة بحاجة إلى خلق فضاء سياسي وفتح المجال للسوريين لتطوير عقلهم السياسي، وإلا فإن السوريين سيستكينون للصوت الوحيد الموجود حالياً في الساحة، صوت "هيئة تحرير الشام" ("جبهة النصرة" سابقاً) وأحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، وسيعتبرون الألعاب السلطوية هي الممارسة الطبيعية للسياسة لا غير، الأمر الذي سيترك الساحة لهذا الصوت الإسلاموي الأوحد كي يغسل العقول ويفرض وصايته ومرجعيته الأحادية على الأذهان والممارسات المدنية.



2- حين ثار الشعب السوري، كانت الحرّية هي أحد المبادئ القاعدية التي نادى بها وناضل ودفع من أجلها أثماناً باهظة من القمع والتقتيل والاعتقال والتهجير في السنوات الماضية. ما حققه السوريون اليوم هو "تحرر" (Liberation)، إلا أنهم لم يصلوا بعد إلى "الحرية" (Freedom). هناك فرق سياسي ومدني ومجتمعي ودولتي ما بين "التحرر"، من جهة، و"الحرية"، من جهة أخرى.



تحررت سوريا من نظام الإجرام والقمع والاستبداد والفساد. ولكن درب عيش الحرية وممارستها وفهمها وتحويلها إلى معيار قيام الدولة وإدارتها ما زال أمراً لا نعلم حتى هذه اللحظة ما إذا كنا سنتمكّن من عيشه وتحقيقه في سوريا الغد. واحد من أهمّ ملامح الحرية في الدول والمجتمعات يتمظهر في جانب التعدد والتنوع. على المجتمع والدولة السوريين القادمين أن يكونا تعدديين وتنوعيين بامتياز، فسوريا فسيفساء معقد ومتشابك وغني جداً  بالجماعات والثقافات والأديان والطوائف والتيارات الفكرية والرؤى السياسية. ولا يمكن لأي حكم بديل أن يقرصن البلد من هذا التنوع وأن يهمش الأصوات الأخرى كائناً ما كانت قوته وكائناً من كان من يدعمه ويحاول فرضه على المشهد.



يحتاج الشعب السوري لكي يعيش الحرية إلى أن يتعرض لأصوات وطروحات ومواقف مختلفة ومتنوعة تردد أصداء تعدديته وتنوعه وتلويناته المختلفة. لا ينبغي السماح لأي صوت واحد أو أحادي، كائناً من كان، أن يهيمن على المشهد وأن يغسل العقول بذريعة أنه صوت الغالبية الدينية أو الغالبية العددية أو الغالبية الطائفية أو الغالبية الثقافية أو الغالبية اللغوية أو الغالبية الأيديولوجية أو أو... الحرية هي عماد الديمقراطية، والأخيرة جوهرها التوافق في قلب التعدد. من دون هذا، لا مجال للسوريين أن يفهموا ويعيشوا ويمارسوا الحرية في سوريا "حرة" وليس سوريا "متحررة" فقط.



3 - وأخيراً، في ضوء المُعطيين الموضوعيين السابقين، ينبغي علينا أن نقول إن الثورة السورية التي قامت بأيدي المواطنين السوريين الأحرار المدنيين العزل والأبرياء لم تنتصر بعد، وأخاف أن تنهزم في المستقبل. يعرف السوريون أن "هيئة تحرير الشام" تاريخياً ما كانت تمثل الثورة السورية، وأنها لطالما قمعت الثوار المدنيين وناهضت دعواتهم إلى الحرية والديمقراطية والمدنية والعلمانية والعدالة وحكم القانون والدستور وحقوق الإنسان. لطالما ناهضت "تحرير الشام" وقائدها لا المدنيين الثوار فقط، بل وحاربت ميدانياً كتائب "الجيش السوري الحر"، وحين انتهى بها الأمر بنيل دعم أميركي - أوروبي وتركي لتأسيس نوع من أنواع الوجود الدولتي في منطقة إدلب، مارست هناك سياسات تعاكس تماماً ما دعت إليه الثورة المدنية السورية.



واليوم، وبقرار إقليمي - دولي وتنفيذ تركي، باتت "هيئة تحرير الشام" هي البديل الوحيد والمهيمن على المشهد السوري الذي أسقط النظام، وهو يحكم كبديلٍ باسم الثورة. لم تحقق الثورة مبادئها وأهدافها بعد، ولهذا لا نستطيع القول حتى هذه اللحظة إن الثورة السورية المدنية الحقيقية قد انتصرت. المهمّ في ما سيأتي، ألّا نشهد انهزام تلك الثورة، فهي إن كانت لم تنتصر حتى الآن، إلا أنها لم تشهد الهزيمة والانكسار، فالسوريون الثوار المدنيون والديمقراطيون والأحرار والعلمانيون ما زالوا يناضلون، وهم اليوم يرفعون الصوت في الساحة قدر الإمكان لكي يحققوا انتصاراً للثورة.

إن الطريق طويل حقاً ومعقد وشائك ومليء بالتحديات أمام السوريين لتحقيق حلمهم بالدولة والمجتمع المنشودَين. المهم الآن أننا تحررنا من "نظام هتلري" مجرم ورميناه في مزبلة التاريخ.


*باحث وأكاديمي سوري