ربما انتهى المخاض بعد أيام وبات للبنان رئيس جمهورية. ارتفاع فرص تحقق هذا التوق وضع شخص الرئيس المرتقب في مقدمة مواضيع البحث والتداول والنقاش ذي الحدة أحياناً، على مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. يقف المشاهد والقارئ والمستمع على غوص عميق في كفاءات كل مرشح، تاريخه، علاقاته وولاءاته الداخلية والإقليمية وأحياناً الدولية. غير أن ما من محلل استوقفه أمر جوهري: هل يكفي البرنامج والنيّة، أم يتطلب الأمر النظر في الإمكانية؟ الرؤية والكفاءة شرطان ضروريان. لكنهما لا يكفيان. الإنجاز يشترط تكامل النيّة بالإمكانية وإلا كان الفشل لا محالة، مصير ذاك الجهد مهما صفت النيّة ومضت العزيمة.
لننظر أولاً في متطلبات الدولة الحديثة التي تتميّز بسلطة تنفيذية واسعة الصلاحية تتطلب سرعة اتخاذ قرارات استجابةً لحاجات الحياة الحديثة وتسارع أحداثها. علينا بعدها استعراض الخيارات الدستورية التي تتقيّد بها الدولة الحديثة وهذه كلها للوقوف على أيها أوفى بمتطلبات حكم لبنان.
الحضارة الغربية التي أنتسب إليها طوّرت رؤى لشتى نواحي الحياة ومن بينها أنماط الحكم. النوع الأوسع انتشاراً بين خياراتها هو النظام الديمقراطي الذي يأتي بالحكام بناء على إرادة شعبية، وأيضاً، وهو شرط لا يقلّ عن الأول لزوماً، إخضاع الحاكم لمراقبة السلطتين الأخريين التشريعية والقضائية، والأهم، رأي الشعب الفاصل في الحكام بصورة دورية، وهي انتخابات تجدّد بها ولايتهم أم تحجب عنهم.
تطور الحياة الحديثة وتسارع وتيرتها أدّيا إلى تعديل جوهري في مهام السلطات الثلاث. لا بدّ من صلاحيات واسعة وعلى تزايد للسلطة التنفيذية. القيود من قبل المجلس التشريعي التي كانت صالحة وضرورية لعصور سابقة، باتت مضرّة في عالمنا الحالي إذ متطلبات الحياة لا تسمح بالبطء في أخذ القرارات وبحثها في مجالس التشريع. كان الحل بتعديل في مؤسسات الدولة الديمقراطية بأن أولت السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة على أن تكون الرقابة دائمة ويأتي التقييم لاحقاً على شكل انتخابات دورية، لكنها حافظت على تدخل السلطة القضائية في أحوال المخالفة السافرة والمضرة بالقيم التي يقوم النظام عليها.
لهذه التطورات في القيم الديمقراطية اسم وهو النظام الرئاسي. خير وصف للنظام الرئاسي ما شاع على "أن الأميركيين ينتخبون كل أربع سنوات دكتاتوراً يحكمهم".
مثال صارخ على تآلف النظام الرئاسي مع متطلبات الدولة الحديثة نجده في سابقة الجنرال شارل ديغول في منتصف الخمسينات من القرن الماضي. وضع الفرنسيون دستوراً جديداً لهم بعد الحرب العالمية الثانية ابتدأ معه ما عرف بـ "الجمهورية الرابعة" ذات الرئاسة الشكلية فيما القرارات الفعلية محصورة بمجلس الوزراء. أزمة قناة السويس 1956 والعمليات العسكرية الفاشلة انتهت بأزمة حادة في فرنسا حدت بالكثيرين إلى الاستنجاد بالجنرال شارل ديغول لتبوّؤ السلطة. رفض ديغول الطلب ما لم يتم تعديل الدستور وإقرار نظام رئاسي لفرنسا. وافق السياسيون الفرنسيون على طلب ديغول وعدلوا الدستور جاعلين من فرنسا جمهورية خامسة ذات حكم رئاسي. لا بل أسرف ديغول في الحدّ من صلاحيات المجلس النيابي بإقرار الدستور الجديد مبدأ "الاستفتاء الشعبي، ريفرندوم" في مواضيع ذات أهمية خاصة. من هذا الإصلاح الديغولي برزت فرنسا الحديثة.
في التجربة اللبنانية ما يدعم هذا الرأي وإن اتخذ شكلاً خارجياً مختلفاً. يكثر وصف فترات حكم بشارة الخوري، كميل شمعون وفؤاد شهاب بحقبة لبنان الذهبية. تختلف التفسيرات حول أسبابها. منها الشخصية إذ تمتّع الثلاثة بصفات رجال دولة وأثبتوا كفاءة غابت عمّن خلفهم. البعض الآخر عزا التفوق إلى الأوضاع الإقليمية والانقلابات العسكرية وقيام منظمة التحرير الفلسطينية وتجذّرها في الأراضي اللبنانية وما جرّته من فتن وحروب وويلات. هناك أيضاً من يهمس بسبب ثالث. إنه حكم المسيحيين. فعندما أفل نجمهم توالت الكوارث على لبنان – السنّة استقدموا منظمة التحرير ليحكموا بفضلها لبنان، والشيعة من بعدهم سيطروا على لبنان عبر التسلّح لمقاومة العدو الصهيوني وآخر فصولها "المساندة والمشاغلة".
إلّا أن إزالة المظاهر الخارجية لهذه التأويلات تنتهي بإدراك حقيقة تعود بنا إلى ما ذكرنا من أنظمة دستورية. لبنان الماروني كان جمهورية رئاسية فيما لبنان السني وبعده الشيعي هما بلد لا سلطة أو قراراً مركزياً فيه، خاصة بعد أن حوّل اتفاقية الطائف وبعده الدوحة ما كان عرفاً إلى نص قانوني.
باتت السلطة التنفيذية في لبنان تقوم على "الميثاقية" و "التوافقية" و "الثلث المعطل" و "التوقيع الثالت" و "توقيع وزير المالية الذي لا إلزاماً عليه به ولا مدة تجعله نافذاً، ما يعطّل إقرار كل قرار يستوجب نفقة. وتصدع السلطتين التنفيذية والقضائية من جرّاء تدخل وسيطرة المكوّن الشيعي الذي استمد بأسه من التمدد الإيراني واستقلاله بالقرارات التشريعية إذ أي اجتماع تشريعي يخضع لإرادة رئيس المجلس النيابي المنفردة، يدعو إليه أو يغلق أبواب البرلمان في وجه النواب. إضافة إلى ما تقدم، بات اجتماع مجلس الوزراء أشبه بغرفة مقاصة بين أعضائه ومن يمثلون لتحديد الأرباح والمكاسب وتوزيعها. وهكذا انتهى لبنان إلى كيان يمثل مزيجاً من العشائرية والأنارشية يتحكّم بكل مفاصله الفساد، فلم يترك لشعبه ما يتطلع إليه سوى الهجرة والانتشار في أراضي اللّه الواسعة.
لا خلاص للبنان بالحلول الجزئية ولا حتى بحسن اختيار رئيس جمهورية وإن بدت تطوّرات المنطقة واعدة بعد انهيار نظام الأسد في سوريا وهزيمة "حزب اللّه" وربما طوي صفحته. تلك هي فرص تتيح سبل خلاص لبنان. غير أن الخلاص الفعلي يكون بإصلاح بنيوي للبنان يأخذ بالحسبان مكوناته التاريخية ويكيّفها مع أنظمة الحكم الحديثة التي تولي الخصائص المحلية حقوقها الأساسية في إطار سلطة مركزية ذات صلاحيات ضمن أطر محددة.
التقيت منذ أيام صديقاً أكاديمياً في أحد المقاهي ودار بيننا ما هو على كل لسان. ما رأيك بالانتخابات الرئاسية؟ لم يخف الصديق تأييده انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً خاصة أنه عرفه شخصياً كتلميذ تسجل في أحد صفوفه منذ بضع سنوات وتميّز أداؤه بالجدية وسعة الاطلاع والثقافة. شجعني إطراء الصديق للعماد لأنني أثق بحكمه. أجبته: "لقد أزلت عني هماً يستبدّ بي.
أتدري ما هو؟ إنه همّ انتخاب سمير جعجع رئيساً. أي مرشح ما عدا جعجع". بدا بعض العجب في وجه الصديق حتى أضفت: "جعجع هو أمل المسيحيين الأخير. إن انتخب لمنصب لا صلاحية له لتنفيذ أي وعد وتحقيق أي أمل، خيّب الآمال وذوى بريقه وانتهى. وبنهاية جعجع تكون نهاية المسيحيين في لبنان".