عندما تشرق شمس الأول من كانون الثاني، تتجه أنظار العالم، وأنظاري أنا ابنة هذا العالم إلى فيينا، حيث تعزف "أوركسترا فيينا الفيلهارمونية" سيمفونية العام الجديد. كم أتمنّى في كل عام أن ألتصق بجدران القاعة الذهبية بمبنى "موسيكفيراين"، وأحلم بالفرح على أنغام الفالس ومقطوعات عائلة شتراوس الخالدة، وأن أنطلق مع انطلاق هذه الاحتفالية التي تجمع بين الموسيقى الكلاسيكية وروح التفاؤل.
يبدأ حفل رأس السنة ظهراً بتوقيت بيروت، في أول يوم من العام. هو ليس مجرد مناسبة موسيقية، بل وعد عالمي ببداية مفعمة بالجمال والسلام. يقام في مدينة لطالما كانت ملهمة للموسيقيين والفنانين، وكم أعشقها أنا الملتصقة بشاشة التلفزيون في أول أيام السنة، فمعها تتحوّل اللحظة إلى لوحة فنية تتحدث فيها الألحان لغة الروح، وترتفع فيها رسالة الإنسانية فوق كل اختلاف.
في قاعة "موسيكفيراين" (Musikverein) الذهبية الشهيرة، تتجلّى ملامح الفخامة والرقي في أبهى صورها. منذ عام 1939، وُلد هذا التقليد الموسيقي ليصبح رمزاً عالمياً للموسيقى الكلاسيكية. الحفل، الذي ينقل روح فيينا إلى كل أنحاء العالم، يقدّم أعمالاً موسيقية شهيرة من تأليف عائلة شتراوس، بما في ذلك الفالس، البولكا، والمارشات الاحتفالية. إلى جانب أعمال عائلة شتراوس الشهيرة، تشمل برامج حفلات رأس السنة لـ "أوركسترا فيينا الفيلهارمونية" أحياناً، مقطوعات من ملحنين آخرين مرتبطين بالتقاليد الموسيقية النمساوية أو الأوروبية.
الحفل الأول في ظروف استثنائية
أقيم أول حفل صبيحة اليوم الأول من العام 1939 بمبادرة من قائد الأوركسترا النمساوي كليمنس كراوس. وخُصص البرنامج الموسيقي، يومها، بالكامل لأعمال عائلة شتراوس. كانت أوروبا حينها، تعيش أجواء متوترة مع اقتراب الحرب العالمية الثانية، وكان الهدف من الحفل نشر روح الأمل والتفاؤل. منذ ذلك الحين، أصبح الحفل تقليداً سنوياً. نجاح الحفل الأول حوّله إلى تقليد سنوي استمرّ على مدار العقود، متجاوزاً الحروب، والأزمات، وحتى جائحة "كوفيد-19" العالمية.
لحظات إنسانية
استمرّ الحفل، خلال الحرب العالمية الثانية، على الرغم من الظروف السياسية والاقتصادية القاسية، ليصبح صوتاً مقاوماً لليأس. حتى بعض العازفين كانوا يعزفون بينما تخفي قلوبهم قلقاً عميقاً على عائلاتهم.
أما في العام 2021 وأثناء جائحة كورونا، فقد أقيم الحفل دون جمهور للمرة الأولى في تاريخه، ووُضع كرسيّ شاغر على خشبة المسرح كرمز تكريمي للضحايا وكتعبير عن التضامن مع العالم.
من جهة أخرى، يُعدّ تصفيقُ الجمهور في مقطوعة "مارش راديتزكي" جزءاً لا يتجزأ من الحفل، لكنه ألغي في عام 2001 تضامناً مع ضحايا زلزال الهند الذي وقع قبيل الحفل.
عظماء على المسرح
شهد الحفل، ويشهد، مشاركة أساطير الموسيقى الكلاسيكية مثل هربرت فون كارايان، لورين مازل، وزوبين ميهتا. في عام 1987، قاد كارلوس كلايبر الأوركسترا في عرض يُعتبر أحد أعظم العروض الموسيقية في تاريخ الحفل.
كما تجمع القاعة جمهوراً مميزاً يضم شخصيات سياسية ودبلوماسية، نجوم الفن، ومحبي الموسيقى الكلاسيكية من جميع أنحاء العالم. تشهد المقاعد الذهبية حضوراً ملكياً يعكس مكانة الحفل كإحدى أبرز الفعاليات الثقافية العالمية.
ويُبث الحفل مباشرة إلى أكثر من 90 دولة ويشاهده أكثر من 50 مليون شخص سنوياً. من عشّاق الموسيقى الكلاسيكية إلى العائلات التي تشاهد الحفل كجزء من تقاليدها الاحتفالية، يُمثّل الحفل رابطاً فنياً وإنسانياً يوحّد الناس عبر الثقافات والحدود.
أزهار وتذاكر ورسائل إنسانية
منذ الستينيات، تُزيّن قاعة "موسيكفيراين" بتصميمات زهرية مبهرة تُضفي لمسة من السحر والجمال. الأزهار، المقدّمة كهبة سنوية من مدينة سان ريمو الإيطالية، تخلق أجواء بصرية متناغمة مع الموسيقى. الألوان الزاهية والتصميمات الفريدة تجعل القاعة أشبه بلوحة فنية تتكامل مع الألحان.
أما نظام القرعة الإلكتروني فيجعل الحصول على تذاكر الحفل أشبه بالفوز بجائزة ثمينة، تبدأ أسعار التذاكر من 20 يورو لحفل المعاينة، لكنها تصل إلى 1200 يورو للمقاعد المميّزة في الحفل الرئيس. علماً أن الحجوزات تتم في الشهرين الأولين من السنة السابقة للحفل، وعلى الرغم من التحديات، فإنّ المشاهدة عبر التلفزيون تظلّ خياراً جذاباً لعشاق الموسيقى.
سحر السلام
فيينا، بعراقتها ورقيّها، تستقبل العام الجديد كما لا تستقبله أي مدينة أخرى. بين ألحان شتراوس، أضواء القاعة الذهبية، وزينة الأزهار، تقدّم فيينا للعالم دعوة سنوية للسلام، والجمال، والحب.
عندما تنتهي الألحان وتخفت الأضواء في قاعة "موسيكفيراين"، تبقى فيينا متربّعة على عرش الموسيقى العالمية، مدينة تكرّس صباح كلّ رأس سنة لتذكير العالم بجمال الحياة. عبر أنغام شتراوس ورسائل الأمل التي تسري بين الحضور والمشاهدين، وأبقى أنا مثلهم مسحورة بالنغمات والألوان طول اليوم. ويتجدّد الوعد بأنّ الفن سيظل الوسيلة الأسمى لتوحيد القلوب وتجاوز الأزمات. فيينا رمز خالد للإبداع والسلام، منها تنطلق دعوة سنوية لكل روح إنسانية لتبدأ عامها الجديد على إيقاع الحب والجمال.