«عند تغيير المراحل إحفظ رأسك»، والأهم «شغِّل عقلك». يجب عدم التمادي بالتفاؤل، نحن في الوقت الضائع بين مرحلتين بحيث طويت صفحة عمرها نحو قرن، ولكن لم تفتح بعد صفحة جديدة في كتاب المنطقة. وقد يستمرّ الوقت الضائع لسنوات قبل أن ترسو قواعد جديدة. المرحلة تغيرت بفعل القوة العسكرية، فالتغيير غالباً ما يأتي على صوت المدافع، خصوصاً في الشرق.
ويترسّخ التغيير عندما يقوم الخاسر بمراجعات تؤهله ليصبح ضمن نسيج المرحلة الجديدة وقواعدها. لا يبدو «حزب اللّه» مؤهلاً ولا قادراً على مراجعات كهذه. العقيدة مقفلة بأختام إلهية. كذلك هناك طبقة سياسية تعتقد أنها «مرنة» ودأبها التكيف مع كل المراحل. بمعنى أن ما حصل لا تُحَمِّلُهُ هذه الطبقة أبعاداً استراتيجية وانتصاراً لنهج على آخر. المهم في ما حصل أن تبقى موجودة وتلعب على الحبلين.
تشبه هذه الطبقة من يأتي إلى الأعراس بثياب المآتم. المهم الحضور بمعزل عن مراعاة طقوس المناسبات ومتطلباتها. وبين من انهزم ويعيش حال إنكار، ومن لم تتغير مقارباته ويجترّ الخطابات القديمة، لا يبدو عند كثر استحقاق انتخاب رئيس محطة مفصلية، مهما كان اسم الرئيس العتيد.
ومن خطابات المرحلة القديمة لصق مقتل حسن نصرالله الشيعي، بمقتل رفيق الحريري السني ومقتل كمال جنبلاط الدرزي ومقتل بشير الجميل المسيحي. والتبرير المعطى أن كل الطوائف أخذتها نشوة انتصار ثم عانت خيبة هزيمة، لذا يجب طمأنة المهزوم، واستدعاء شعار «لا غالب ولا مغلوب».
وبقدر ما الطمأنة واجب وطني ومن دونها لا يستقيم منطق الدولة، يبدو منطق الـ «لاغالب ولا مغلوب» استدعاء لشروط دولة التكاذب. وأصلاً وضع كل هؤلاء القادة الذين اغتيلوا في سلة واحدة فيه تبسيط، فإن التقوا على مناهضة نظام آل الأسد ولقوا مصيراً واحداً فلا يعني أنهم كانوا على اتفاق في العديد من المنطلقات. ويجب الاعتراف أن القليل كان يجمع بينهم لا الكثير.
ومن ضرورات التغيير وقف هذا التعميم لاختلاق واقع سياسي لا يزال بعيد المنال. ومن غير المفهوم كيف نجزم بولادة مرحلة مختلفة جذرياً ولم تتغير سمات المرحلة التي انطوت؟ لربما يحتاج الأمر إلى أكثر من دورة انتخابات نيابية لتكريس واقع جديد.
نحن عند هذا الحد الزمني بين مرحلتين، والسؤال الكبير هل الرئيس المُنتظر يريد أن يصل إلى هذا العمق في بحر التناقضات اللبنانية؟ كُثُرٌ من المرشحين كلامهم كأي كلام، ومن غير المرجح أن طينتهم السياسية تتجه نحو إحداث اختراق فكري ورؤيوي ينقل لبنان من زمن إلى زمن. والصراحة تقتضي القول إن التغيير التاريخي الذي يداعب الآمال يقوده «رجل رؤية» لا «رجل دولة».
هذا ما فعله كونراد أديناور مؤسس ألمانيا الحديثة. وبدلاً من الانغماس بنعرة القومية والتفوق العرقي والثأر من هزيمة حربين عالميتين، نقل الشعب ذاته الذي هتف قسم كبير منه لهتلر إلى رحاب المستقبل.
لقد وضع «رؤية» جديدة، وصفها كيسنجر في كتابه «القيادة»، بـ «استراتيجية التواضع أو حتمية التجديد». ولم تقم قائمة لـ «رجال دولة»، ودولة قانون في ألمانيا لو لم تنتصر «الرؤية».
يجب أن نعترف في لبنان أن ثمة مشروعاً انتصر، ولكن الشعب كله مهزوم. كل فئة لحقتها هزيمة من نوع مختلف، تماماً كما انهزم الشعب الألماني، الذي أيَّد منه هتلر والذي عارضه.
وما نستحقه بعد معاناة طويلة، رئيس «صاحب رؤية» يجنِّب لبنان معادلة «منتصر ومنهزم» وفق قواعد اللعبة التقليدية.
نريد رئيس «استراتيجية المصارحة وحتمية التجديد»، وإلا ستحمل المرحلة المقبلة الكثير من مضامين الماضي.