في عالم السينما المعاصرة، حيث تسعى شركات الإنتاج الكبرى لمواكبة القضايا المجتمعية وإعادة تشكيل السرديات التقليدية، برز فيلم "Snow White and the Evil Queen" (بياض الثلج والملكة الشريرة) الجديد، من إنتاج "ديزني" كواحد من أكثر الأعمال إثارة للجدل. بين إعادة تقديم قصة كلاسيكية تعود النسخة السينمائية الأولى منها إلى العام 1937، وطرح رؤية تتماشى مع قيم التنوّع والشمولية، يقف الفيلم في منطقة وسطى بين الإشادة والنقد. فكيف يمكن أن تتحوّل الحكايات الخيالية، التي تربّت عليها أجيال، إلى ساحة لنقاشات اجتماعيّة وسياسيّة؟ وهل تنجح هذه المحاولات في تحقيق التوازن بين الإرث الثقافي والتحديث؟
تجسّد رايتشل زيغلر، الممثلة ذات الأصول اللاتينية، دور بياض الثلج في هذه النسخة المحدّثة، مع تغييرات جذرية في شخصية البطلة. في حين أنّ النسخة الأصليّة صوّرت بياض الثلج كأميرة حالمة تنتظر إنقاذها من قبل أمير، فإنّ الفيلم الجديد يقدّمها كقائدة تسعى لتحقيق العدالة والشجاعة. هذا التغيير حظي بإشادة من مناصري تحديث الروايات التقليدية، لتعكس قيم الاستقلالية والقوة، لكنه أثار انتقادات من أولئك الذين يعتبرون هذه الخطوة ابتعاداً عن الجوهر الرومانسي للقصة.
مقاربة معقّدة
اختيار زيغلر، وهي ممثلة كولومبيّة، لتجسيد شخصية تتمتع بـ "البياض المثالي" في الرواية الأصلية، أثار ردود فعل متباينة. بين من يرى أنّ جوهر بياض الثلج يكمن في طيبتها وليس في مظهرها، ومن يعتبر أنّ مثل هذا الاختيار يمثّل انفصالاً عن الأصل الثقافي للقصة، ومن هنا تحوّل الفيلم الذي سينطلق عرضه في آذار المقبل في الولايات المتحدة، ساحةً للنقاش حول حدود التحديث والتنوّع في السينما. كما تلعب الممثلة الإسرائيلية غال غادو، المشهورة بدورها في "Wonder Woman"، دور الملكة الشريرة، وقد أثار ذلك جدلاً إذ اعتبرها البعض أجمل من الممثّلة الرئيسة، ما أدّى إلى نقاشات حول المعنى الحقيقي للجمال في القصة. الملكة ما زالت تسعى لتدمير بياض الثلج بسبب جمالها، لكنها تظهر أيضاً كشخصية ذات عمق ودوافع نفسية أكثر وضوحاً.
أمير داعم لا منقذ
يظهر الأمير كشخصية داعمة في القصة، لكنه ليس المحور الأساسي. إذ وُصف الأمير في هذه النسخة بأنه "معاد التصنيع" (Deconstructed Prince)، بمعنى أنّ دوره يعكس تطلّعات المجتمع الحديث لشخصيات ذكورية تتعاون مع النساء بدلًا من قيادتهنّ أو إنقاذهنّ. بدلاً من دوره التقليدي في إنقاذ بياض الثلج بقبلة الحب، يُصوَّر كحليف يساعدها في تحقيق أهدافها. في النسخة الجديدة تتسم العلاقة بين بياض الثلج والأمير بالاحترام المتبادل والعمل المشترك، مع تقليل التركيز على الرومانسية التقليدية، وهكذا يعكس الأمير فكرة الرجل المتعاون الذي يؤمن بشراكة متكافئة بدلاً من البطل الكلاسيكي المنقذ. ففي النسخة الجديدة، تتسم بياض الثلج بشخصية قويّة ومستقلّة، لم تعد تنتظر الأمير لإنقاذها، بل تسعى لأن تكون قائدة حكيمة وشجاعة لشعبها. وتركّز القصة على رحلتها في اكتشاف ذاتها وتنمية قدراتها القيادية لمواجهة الملكة الشريرة وإنقاذ مملكتها.
كائنات سحرية بدل الأقزام
في خطوة تهدف إلى تجنّب تعزيز القوالب النمطية، استبدلت "ديزني" الأقزام السبعة بـ"كائنات سحرية" مصممة بتقنيات "CGI" (Computer-Generated Imagery) التي تقوم على إنشاء الصور أو المشاهد باستخدام الكمبيوتر، وهي تُستخدم في الأفلام، الألعاب، والإعلانات لإنشاء تأثيرات بصرية واقعية أو خيالية.
ومع ذلك، أثارت هذه الخطوة استياء بعض الممثلين المصابين بالقزامة، الذين رأوا فيها فقداناً لفرص عمل كان يمكن أن تسلّط الضوء على قدراتهم الفنية. هذه الانتقادات تفتح باب النقاش حول ما إذا كانت هذه القرارات تخدم قضية الشمولية أم تضيف إليها تعقيداً جديداً.
جدل على وسائل التواصل
تصريحات رايتشل زيغلر عن الفيلم الأصلي باعتباره غير مناسب للمعايير الحالية، أشعلت جدلاً على منصات مثل "تيك توك". وفي حين أشاد البعض بجرأتها على نقد العمل الأصلي، رأى آخرون في تصريحاتها استخفافاً بإرث ثقافي عريق. في ظل هذا التفاعل الجماهيري، يتجلّى دور وسائل التواصل كمساحة للنقاش الحرّ وأحياناً للتضليل.
دور "الووك" في الجدل
مصطلح "الووك" (Woke)، الذي يشير إلى الوعي بالقضايا الاجتماعية والعدالة، لعب دوراً محورياً في الجدل حول الفيلم. وبينما يرى البعض أنّ هذه التحرّكات تأتي ضمن سياق إيجابي لتعزيز الشمولية، يرى آخرون أنّ التركيز المفرط على "الووك" يضرّ بجودة السردية السينمائية. إذن، هل تُعتبر "الووك" قوة دافعة نحو التغيير، أم أنها عبء يحدّ من الإبداع الفني؟ قد يكمن الحلّ في عدم الانحياز الكامل لأيّ من الطرفين. إذ يمكن لوسطية متّزنة أن تعيد صياغة الحكايات بطريقة تحترم الماضي وتستجيب للحاضر. على سبيل المثال، أليس في المستطاع تقديم شخصية بياض الثلج المستقلّة مع الاحتفاظ بعناصر الحب والرومانسية التي ميّزت الرواية الأصلية، ودمج الشخصيات بطريقة تعزّز التنوّع دون أن تبدو قسرية؟
بين محاولات "الووك" لتحديث الحكايات الكلاسيكية ومقاومة المحافظين للحفاظ على أصالتها، يقف فيلم "بياض الثلج" الجديد كرمز لصراع أوسع في عالم السينما والمجتمع. وبينما تتصاعد النقاشات حول كيفية التعامل مع الإرث الثقافي في زمن التغيير، يظلّ التحدّي الأكبر إيجاد توازن يضمن استمرارية هذه الحكايات كجسر بين الماضي والمستقبل. فيلم "ديزني" الجديد قد يكون دعوة للتفكير في كيفية استخدام الإبداع كوسيلة لبناء جسور عوض هدمها، ألن تشتاق بياض الثلج الجديدة الشجاعة القائدة أبداً إلى نزر من الرومانسية، أم عليها أن تدفع ثمن حريّتها كما يدفع كل إنسان ثمن خياراته؟