رحل أمس أحد أبرز رموز اليمين الفرنسي الحازم، مؤسّس حزب "الجبهة الوطنية" الذي أصبح لاحقاً "التجمع الوطني"، جان ماري لوبن، والد "الزعيمة الروحية" لـ "التجمع الوطني" مارين لوبن، عن عمر ناهز الـ 96 عاماً، بعدما خاض مساراً عسكرياً وسياسياً حافلاً ومثيراً للجدل، ساهم خلاله بعودة اليمين الفرنسي الحازم كقوّة وازنة ومنظّمة على الخارطة السياسية الفرنسية.
وبذلك يكون الرجل الفصيح وصاحب "الكاريزما" قد غاب في وقت يعيش فيه "التجمع الوطني"، الذي طُرد منه جان ماري من قِبل ابنته مارين، أفضل فتراته السياسية، إثر تحقيقه خلال العام الماضي نتائج انتخابية تاريخية، اعتبرها مراقبون مؤشراً إلى إمكانية فوز مارين في المعركة الرئاسية المقبلة بعد عامين، إن استطاعت خوضها، بعد ثلاث حملات فاشلة.
وأمضى جان ماري حياته في القتال بطريقة أو بأخرى، سواء كجندي في حروب فرنسا الاستعمارية، أو كمؤسّس لـ "الجبهة الوطنية"، أو في نزاعاته مع بناته وزوجته السابقة التي كانت في كثير من الأحيان تجري علناً وبضراوة. وكان السياسي الراحل قومياً صريحاً وشديد الانتقاد للاتحاد الأوروبي، الذي اعتبره لوبن مشروعاً يغتصب السلطات الوطنية للدول.
وكان جان ماري قد خاض تحت ألوان "الجبهة الوطنية" وشعار "فرنسا للفرنسيين"، الانتخابات الرئاسية في المحطات التالية: 1974، 1988، 1995، 2002، ثمّ 2007. وحققت مشاركته عام 2002 أكبر مفاجأة لليمين الحازم بوصوله إلى الدور الثاني في مواجهة الرئيس الراحل جاك شيراك الذي حقق فوزاً ساحقاً.
وأسّس جان ماري في 5 تشرين الأول 1972 "الجبهة الوطنية". ومع توالي الانتخابات، بدأت "الجبهة الوطنية" تفرض ذاتها على الساحة السياسية الفرنسية، خصوصاً في ثمانينات القرن الماضي، حيث تمكّن لوبن من حجز مقعد له في البرلمان الأوروبي، بقي فيه من حزيران 1984 حتى 2014.
وفي الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 1995، حصل لوبن على 4.57 ملايين من الأصوات، ما يقدر بـ15 في المئة، ليأتي في المرتبة الرابعة. كما حقق عام 1995 نجاحات على مستوى الانتخابات البلدية، حيث رفرفت شعلة "الجبهة الوطنية" في مدن عدة.
وعاد جان ماري من جديد لفرض اسمه كمنافس قوي أمام كبار المرشحين للانتخابات الرئاسية في استحقاق 21 نيسان 2002، إذ تأهل إلى الدور الثاني من هذه الانتخابات، مقصياً المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان، حيث حصل على 4.8 ملايين من الأصوات، بما قدره 16.9 في المئة. واعتبرت هذه المحطة انطلاقة حقيقية لليمين الحازم لفرض نفسه انتخابياً.
وإثر تحقيقه المركز الرابع في الانتخابات الرئاسية عام 2007، ومع تقدّمه في السن، أعلن لوبن في 9 نيسان 2010 أنه لن يتنافس على رئاسة "الجبهة الوطنية" مجدّداً، كما أنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية للعام 2012. وبعدما تنحى سياسياً، قدّم لوبن دعمه لابنته مارين لأخذ "مشعل" اليمين الحازم من بعده. وتربّعت الابنة على عرش التنظيم خلفاً لوالدها في كانون الثاني 2011، فيما تقلّد هو منصب الرئيس الشرفي للحزب.
إنما هذا التقارب بين مارين لوبن ووالدها لم يدم طويلاً. فابتداء من 2015، بدأ يُشكّك في الحملة التي أطلقتها لتحسين صورة التنظيم وعاد ليُكرّر تصريحات مثيرة للجدل له حول إنكار المحرقة النازية التي دين قضائياً من جرائها، ليُجرّد من منصب الرئيس الشرفي، ثمّ يُطرد من الحزب في 20 آب 2015.
وبينما أعاد القضاء جان ماري إلى منصبه، لم تتقبّل مارين حضور والدها في الحزب، ما دفعها إلى تصفية التنظيم للتخلّص من أبيها، وأسّست "التجمع الوطني" عام 2018. وبالتالي، استحال لوبن الأب رمزاً قديماً يُثير ضجة إعلامية بين الفينة والأخرى. وبرحيل جان ماري تطوى صفحة مرحلة قديمة من تاريخ اليمين الحازم، الذي جدّد نفسه ولبس حلّة جديدة أكثر جاذبية للجيل الصاعد.