حدث رأيت فيه ما يستدعي التعليق.
استوقفني، كالكثير، برنامج للأطفال على "قناة الجديد" أثار موجة من الردود والتعليقات.
ما هو الحدث؟ ما هي دلالاته؟ ما كانت التعليقات عليه؟ وما هو الإجراء الأمثل لتلافي ذيول ربّما كانت كارثية من جرّائه؟
مساء السبت في الرابع من كانون الثاني 2025 بثّت قناة "الجديد" برنامجاً معدّاً للأطفال برز بينهم طفلان في الحادية عشرة من العمر. أحدهما من بيئة "حزب اللّه" فيما الآخر من عائلة تنتمي لـ "القوات" اللبنانية. كان التباين بين موقف الحدثين موضع دهشة. تميّز من ينتمي إلى بيئة "حزب اللّه" بالثقة بالنفس إضافة إلى ملكة لغوية وطلاقة مدهشة في الإعلان عن موقفه فيما الطفل الآخر بدا متلعثماً مشتت الأفكار ضعيف التعبير عن رأيه. المهم يبقى محتوى المساجلة. المتحدث باسم أطفال "حزب اللّه" بدأ يروّج للاستشهاد وحمل السلاح. وعندما سألته مديرة الحوار عمّا إذا كان مدرّباً على استعمال السلاح، سخر من سذاجة "المدام" وبدأ بسرد أنواع الأسلحة والذخائر مصرّحاً بأنه ابن شهيد والشهادة من أهدافه. كما لم يفته ذكر رمز الجهاد عندهم، "صرماية السيد" التي ترد على ألسنتهم من أرفعهم مقاماً حتى حضيضهم. "صرماية السيد هي أعلى من كل لبنان". أكّد لنا هذا الطفل.
أثار البرنامج موجة من ردود الفعل. معدّة ومقدّمة البرنامج اعتذرت وأعلنت أنها أم لأطفال تحرص على بثّ روح المحبة بينهم وبين الآخرين. إدارة "الجديد" أصدرت بياناً أعلنت فيه عن أسفها للتفلّت الذي صاحب البرنامج مضيفة أنها أمرت بحذف تلك المشاهد المحرجة لتتفاجأ بأنها لم تحذف، والإدارة بصدد تحديد المسؤولية التقصيرية.
نشرت صحف يوم الأحد 5 كانون الثاني أن مرجعاً كنسياً لم تسمِّه، ربما كان البطريركية المارونية، استنكر الحدث ورأى الحل في التشديد على إخضاع جميع الطلبة لتربية وطنية جادة تضمن خلق مجتمع تآخٍ وألفة.
أصدر وزير التربية يوم الاثنين بياناً ندّد فيه بالتقصير في إعداد برنامج الأطفال ما انتهى بتصرّف لا يتماشى مع سياسة الوزارة. كما لفت البيان إلى أن وزارة التربية فيها جهاز توجيه هو دائماً في تصرّف كلّ من يهتم بالأطفال ملحّة على ضرورة الاتّصال بهذا الجهاز والاستفادة من خدماته.
حدث لا شكّ حريّ بالتعليق. لكنّ خيبة الأمل كانت في التباين بين فداحة الحدث وهشاشة الحلول.
في لبنان، منذ عشرات السنين، برامج تربية وطنية ملزمة لجميع المدارس. لكنها لم تمنع التشنّج والاضطرابات وحشد الحلفاء من الخارج وتعدّد الانفلاتات الأمنية والحروب بين اللبنانيين.
خير دليل على عبثية هذه المحاولات التوجيهية استعراض محاولات عصرنا هذا منذ قيام الدول الحديثة. ربما كان المثال الذي يبدّد كلّ شك في عبثيّة محاولة قولبة الإنسان هو مثال محاولة الاتحاد السوفياتي طوال 75 عاماً لخلق الأومو سوفيتكوس- الإنسان السوفياتي. محاولة فشلت وإن توفرت لها كل أسباب النجاح: خمس الكرة الأرضية، حكم سلطوي لا حدود له ولا قيود عليه يسيطر سيطرة تامة على كل مواطن من لحظة ولادته حتى دفنه. توجّه السلطة المواطن حيث شاءت ودون روادع عبر التعليم والثقافة. ثم إن تلك الحقبة لم تعرف التواصل الاجتماعي ولا حتى الراديو في أوائلها واتصال المواطن بعالم خارجي يعطّل مسيرة السلطة في صياغة أفكار مواطنيها. فشل تجربة الاتحاد السوفياتي يظهر لمن يريد أن يرى عبثية التوجيه ويؤكد على ما هو فخر للإنسان لا مجال لإنكاره. إنه حرية أصيلة في كل إنسان لا يمكن استئصالها أو قمعها.
العبرة أن الإنسان عصيّ على جميع المحاولات لاستئصال حرية مكينة فيه تلازم وجوده. فالإنسان عندما يخسر حريته تتلاشى إنسانيته.
ما هو الحل إذاً؟ هل نترك التفلّت في توجيه الأجيال المقبلة أم نواجه كل ما يسيء إلى أطفالنا؟
لا خلاف حول مبدأ المواجهة بل الخلاف حول محتوى المواجهة وأشكالها.
المواجهة بالكبت لا تنفع. المواجهة بالتوجيه، هي بدورها لا طائل منها.
ما الحل إذاً؟
لبنان مساحة من الأرض تضمّ شعوباً لكل منها حضارتها وقيمها ورؤيتها للوجود. أبطال بعض هذه الشعوب هي غير أبطال سائرها. مفاهيم العائلة، المرأة، الزواج، والأطفال على تفاوت وربما اختلفت بين هذه الشعوب التي ترصد إحداها الأخرى، ومن حين إلى آخر يتحوّل الترصّد إلى توجّس فشجار فأعمال عنف فحروب.
الحلّ هو مخاطبة الواقع وترك كل شعب من شعوب لبنان يختار طريقة عيشه ويلقى جزاء عمله، أكان ويلاً أم مأثرة.