أثارت مواقف الناشط الحقوقي هيثم المالح حفيظة العديد من اللبنانيين على خلفية تصريحاته الأخيرة التي قال بها إن الساحل اللبناني هو جزء من الأراضي السورية وإن اللاجئين السوريين أتوا إلى لبنان وذهبوا إلى أراضيهم ومن المعيب منعهم من قبل اللبنانيين. وقد فات المالح أن المعلومات التاريخية تعاكس مواقفه بشكل كبير. ولعلّ أبرز ما يمكن عرضه لنفي ادعاءاته هو بعض الإثباتات التاريخية لآداء السلطات السورية في معركة الاستقلال السياسي والاقتصادي والعسكري، والّتي تعاطت فيها السلطات السورية مع السلطات اللبنانيّة بمنطق الندّ للندّ أي علاقة سلطة سياديّة لبنانيّة مع سلطة سياديّة سوريّة.
اعتبر المالح أن الساحل اللبناني الّذي صنّف من أرض الولاية العثمانية هو أرض سورية، ولكن ما فاته أن العثمانيين أنشأوا ولاية بيروت عام 1888 وضمّت ولاية اللاذقية إلى جانب العديد من الولايات الأخرى، وبالتالي فالمنطق الّذي تكلّم به يعني أن اللاذقية هي أرض لبنانية وليس أرض سوريا، ولكن الحقيقة أنّه يجب الفصل بين الإجراءات الإدارية المتّخذة من السلطنة العثمانية والحدود الجغرافية للدول المستقلة.
أنشأت سلطات الانتداب في لبنان وسورية مصالح اقتصادية مختلفة منها الخاصة بكل بلد واخرى مشتركة بين البلدين، وفي خلال معركة استلام هذه المصالح بين عاميّ 1943-1944، كان الرهان الفرنسي على خلاف كبير بين اللبنانيين والسوريين، ولكن جرت الرياح كما لا تشتهي السفن الفرنسية، فاتّسمت المفاوضات بين الجانبين اللبناني والسوري بالسلاسة وتقسّمت المصالح بطريقة عادلة بين الشعبين، وتكلّلت بالنجاح فكان كان التعاطي فيها بين دولتين مستقلتين.
شارك كل من لبنان وسوريا بوفدين مستقلين في مشاورات الوحدة العربية الّتي أفضت إلى إعلان بروتوكول الاسكندرية في تشرين الأوّل من العام 1944، وقيام جامعة الدول العربية وإعلان ميثاقها في 22 آذار من العام 1945، فأضحى لبنان وسوريا من البلدان المؤسسة لجامعة الدول العربية وقد تعاطت الدول العربية مع كل من لبنان وسورية كدولتين مستقلتين وليس كدولة واحدة.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وفوز الحلفاء، كان لبنان قد حصل على إستقلاله السياسي إضافة إلى استلامه المصالح الاقتصادية ولكن كانت المشكلة ما زالت تكمن في إنشاء الجيش اللبناني، وهنا أخذت السلطات الفرنسية قرارًا بإرسال 800 جندي سنغالي إلى لبنان وسوريان، فأرسل وزير الخارجية اللبناني آنذاك هنري فرعون رسالة شديدة اللّهجة إلى المفوّضية الفرنسية يحثّها على احترام سيادة لبنان، كما وذهب إلى سوريا واجتمع مع نظيره السوري جميل مردم بك لتنسيق المواقف، واعتبر الطرفان أن إنزال جيوش فرنسية يعتبر انتقاصًا من سيادة البلدين أي لبنان وسوريا وليس سوريا فقط. وفي السياق نفسه، اجتمع في شتورة وفدين لبناني وسوري ضمّ كل من رئيس الجهورية اللبناني الشيخ بشارة الخوري ورئيس الجمهورية السوري شكري القوتلي، إضافة إلى رئيس الوزراء اللبناني عبد الحميد كرامي وعدد من الوزراء السوريين، واقد اتفّق المجتمعون على إرسال مذكرة إحتجاج مشتركة رسمية إلى الدول الّتي لها علاقة بهذه الأزمة. وتتابعت معارك الجلاء في الشكوى المشتركة اللبنانية – السورية المقدّمة إلى مجلس الأمن في العام 1946 والّتي أفضت إلى جلاء الجيوش الأجنبية عن لبنان وسورية.
تعدّدت الأمثلة التاريخية والواقعية الّتي تؤكّد أن لبنان دولة مستقلة سيادية لا يربطها بسوريا سوى علاقة حسن الجوار والتواصل والتعاون الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فلبنان هو للّبنانيين ولا يمكن لأي شخصية سورية حالية أن تتبنى ما حاول القيام به نظام الأسد السوري، والّذي، وبالرغم من جبروته وإجرامه، لم يستطع إخضاع السياديين اللبنانيين وانسحب مذلولًا في العام 2005 وانتهى وجوده الكلّي في سوريا وبقي لبنان الحرّ والمستقل.
وعلى هيثم المالح أخذ العبر من التاريخ، فلبنان الّذي مرّت عليه العديد من الحضارات والأفكار السياسية المختلفة من دعاة القومية العربية إلى أصحاب نظرية ضمّه إلى سوريا، فأصحاب الميول المتطرف وصولًا مؤخرًا إلى مبشري ولاية الفقيه، كل هذه الحركات حاولت إخضاعه، ولكن في النهاية زالت عن الوجود وبقي لبنان للبنانيين سيدًّا حرًّا مستقلًا، هذه هي إرادة شعبه الّتي تجسّدت في نتائج الانتخابات الأخيرة في العام 2022، والّتي أدّت إلى انتصار ساحق للتيار السيادي اللبناني على الرغم من وجود ضغط السلاح.
وأخيراً إن الشعب اللبناني يتطلّع إلى أفضل العلاقات الشعب السوري ولكن في إطار الشراكة والأخوّة مع احترام إستقلال وسيادة كل من البلدين، فحديث هيثم المالح لا يخدم بالدرجة الأولى صاحبه ولا يخدم سوريا الجديدة، بالمقابل لا يؤثر على لبنان واللبنانيين الّذين باتوا بأغلبيتهم الساحقة يؤمنون بلبنان السيّد الحر.